الوجه الثاني: أن الصيام سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره؛ لأنه مُركب من نية باطنة، لا يطلع عليها إلا الله، وتَرْكٌ لتناول الشهوات التي يُسْتَخفى بتناولها في العادة؛ ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، وقيل: إنه ليس فيه رياء، فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عَزَّ وَجَلَّ حيث لا يطلع عليه غيرُ من أمره. أو نهاه؛ دل ذلك على صحة إيمانه.
والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سِرًّا بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سِرَّا بينهم وبينه، بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه؛ حتى كان بعضهم يود لو تمكن من عبادةٍ لا تشعر بها الملائكةُ الحفظةُ.
وقال بعضهم لما اطُّلِعَ على بعض سرائره، إنما كانت تطيب الحياة لمَّا كانت المعاملة بيني وبينه سرًّا، ثم دعا لنفسه بالموت، فمات.
المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه.
وقوله: "ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"، فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، وأن الصائم يتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد منها:
(أ) كسر النفس؛ فإن الشِّبَع والرِّي ومباشرة النساء تحمل النفس على الأَشَر والبَطَر والغفلة.
(ب) تُخَلِّي القلب للفكر والذكر؛ فإن تناول هذه الشهوات قد تُقسِّي القلب وتُغمِيه، وتحولُ بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة.
وخلو الباطن من الطعام والشراب ينوِّر القلب ويوجب رقَّته وُيزيل قسوته ويخلِّيه للذكر والفكر.