وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة، وفي الموطأ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بالعَرج يُصَبُّ الماءُ على رأسه وهو صائم من العطش أو الحر.
فإذا اشتد تَوَقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عَزَّ وَجَلَّ في موضع لا يَطَّلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلًا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربًّا يطلع عليه في خلوته، وقد حَرَّم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه، خوفًا من عقابه ورغبًة في ثوابه، فشَكَرَ اللهُ تعالى له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: "إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي".
قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قَدَّم رضا مولاه على هواه، فصارت لذتُه في ترك شهوته لله لإيمانه باطلاع الله عليه، وإيمانه بثوابه وعقابه، فصار ذلك أعظم من لذته في تناول شهوته في الخلوة إيثارًا لرضا ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب، ولهذا تجد كثيرًا من المؤمنين لو ضُرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل؛ لعلمه كراهة الله لفطره في هذا الشهر.
وهذا من علامات الإيمان، أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه، وإن كان موافقًا لهواه، إذا كان هذا فيما حُرِّم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء؛ فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة؛ فإن هذا يُسْخِط الله على كل حال وفي كل زمان ومكان.