فإذا سألت كيف أكون ذاك الأول، وأنجو من ذاك الثاني؛ قلتُ: إن الأمر يحتاج ابتداءً إلى رحمة من الله سبحانه وتعالى، فيجعلك من هؤلاء المرحومين، وينأى بك عن هؤلاء الخاسرين.
فإن قلت: ألا من سبيل للأسباب؟
قلت: بلى وارد، يحتاج ابتداءً إلى همةٍ عالية، ونيةٍ صحيحة، فإذا رأى الله عز وجل من عبده صدقَ النية، ووصل إليه من العبد عملٌ علىَّ، أخذ بيده إليه واعتنى به أشد من عناية الأب الشفيق بولده؛ فدبر له الأمور، وأصلح له الأحوال، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 4 - 10].
يقول ابن القيم عليه رحمة الله: "المطلبُ الأعلى موقوفٌ حصولُه على همةٍ عالية ونيةٍ صحيحة، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه، فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده سبحانه دون غيره، وإن كانت النية صحيحة سلك العبدُ الطريقَ الموصلة إليه، فالنية تُفْرِد له الطريق، والهمةُ تُفرِد له المطلوب، فإذا تَوَحَّدَ مطلوبُه والطريقُ الموصلةُ إليه كان الوصول غايتَه.
وإذا كانت همته سافلةً تعلقت بالسفليات ولم تتعلق بالمطلب الأعلى، وإذا كانت النيةُ غيرَ صحيحةٍ؛ كانت طريقُهُ غيرَ موصلة إليه؛ فمدار الشأن على همة العبد ونيته وهما مطلوبه وطريقُه، ولا يتم إلا بترك ثلاثة أشياء:
الأول: العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس.
الثاني: هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها.
الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب (?).