أذمّ له وأهجى من المكذّب، لأن الذي صدّقه أيس من أن ينزع إلى الإنسانية بحال، والذي كذّب رجا أن ينزع عند التنبيه والكشف عن صورة القبيح.

وأما قولهم في «القناعة» إنها الغنى كقوله: [من البسيط] إنّ القنوع الغنى لا كثرة المال (?) يريد القناعة، وكما قال الآخر: [من الكامل]

إنّ القناعة فاعلمنّ غنى … والحرص يورث أهله الفقرا (?)

وجعلهم الكثير المال، إذا كان شرها حريصا على الازدياد، فقيرا، فممّا يرجع إلى الحقيقة المحضة. وإن كان في ظاهر الكلام كالتشبيه والتمثيل، وذلك أن حقيقة الغنى هو انتفاء الحاجة والحاجة أن تريد الشيء ولا تجده، والكثير المال إذا كان الحرص عليه غالبا، والشّره له أبدا صاحبا، كان حاله كحال من به كلب الجوع يأكل ولا يشبع، أو من به البغر يشرب ولا يروى. فكما إنّ إصابته من الطعام والشراب القدر الذي يشبع ويروى، إذا كان المزاج معتدلا والصّحة صحيحة، لا تنفي عنه صفة الجائع والظمآن لوجود الشهوة ودوام مطالبة النفس وبقاء لهيب الظمأ وجهد العطش.

كذلك الكثير المال لا تحصل له صفة الغنى ولا تزول عنه صفة الفقر، مع بقاء حرصه الذي يديم له القرم والشّره والحاجة والطلب والضجر حين يفقد الزيادة التي يريدها، وحين يفوته بعض الرّبح من تجاراته وسائر

متصرّفاته، وحتى لا يكاد يفصل بين حاله وقد فاته ما طلب، وبينها وقد أخذ بعض ماله وغصب. ومن أين تحصل حقيقة الغنى لذي المال الكثير؟ وقد تراه من بخله وشحّه كالمقيّد دون ما ملكه، والمغلول اليد يموت صبرا ويعاني بؤسا، ولا تمتدّ يده إلى ما يزعم أنه يملكه فينفقه في لذّة نفس، أو فيما يكسب حمدا اليوم وأجرا غدا، ذاك لأنه عدم كرما يبسط أنامله، وجودا ينصر أمله، وعقلا يبصّره، وهمّة تمكّنه مما لديه، وتسلّطه عليه، كما قال البحتري:

وواجد مال أعوزته سجيّة … تسلّطه يوما على ذلك الوجد (?)

فقولهم إذن: «إن القناعة هي الغنى لا كثرة المال»، إخبار عن حقيقة نفّذتها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015