وفيما عداه كائن على حكم السميع. فلم يثبت له الصم على الجملة، إلّا للحكم بأن وجود سمعه كالعدم، إلا أن ذلك في شيء دون شيء، وعلى التقييد دون الإطلاق.
فقد تبيّن أن أصل هذا الباب تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لكونه بحيث لا يعتدّ به وخلوّه من الفضيلة.
والطريق الثاني في شبه المعقول من المعقول: أن لا يكون على تنزيل الوجود منزلة العدم، ولكن على اعتبار صفة معقولة يتصوّر وجودها مع ضدّ ما استعرت اسمه.
فمن ذلك أن يراد وصف الأمر بالشدة والصعوبة، وبالبلوغ في كونه مكروها إلى الغاية القصوى، فيقال: «لقي الموت»، يريدون لقي الأمر الأشدّ الصعب الذي هو في كراهة النّفس له كالموت. ومعلوم أنّ كون الشيء شديدا صعبا مكروها صفة معلومة لا تنافي الحياة، ولا يمنع وجودها معه، كما يمنع وجود الموت مع الحياة ألا ترى أن كراهة الموت موجودة في الإنسان قبل حصوله، كيف وأكره ما يكون الموت إذا صفت مشاعر الحياة، وخصبت مسارح اللذّات. فكلما كانت الحياة أمكن وأتمّ، كانت الكراهة للموت أقوى وأشدّ، ولم تخفّ كراهته على العارفين إلا لرغبتهم في الحياة الدائمة الصافية من الشوائب، بعد أن تزول عنه هذه الحياة الفانية ويدركهم الموت فيها، فتصوّرهم لذّة الأمن منه، قلّل كراهتهم له، كما أن ثقة العالم بما يعقبه الدواء من الصحة، تهوّن عليه مرارته. فقد
عبرت هاهنا عن شدّة الأمر بالموت، واستعرته له من أجلها. والشّدة ومحصولها الكراهة، موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه فليس التشبيه إذن من طريق الحكم على الوجود بالعدم، وتنزيل ما هو موجود كأنه قد خلع صفة الوجود. وذلك أن هذا الحكم إنما جرى في تشبيه الجهل بالموت، وجعل الجاهل ميّتا من حيث كان للجهل ضدّ ينافي الموت ويضادّه وهو العلم. فلما أردت أن تبالغ في نفي العلم الذي يجب مع نفيه الجهل، وجعلت الجهل موتا لتؤيس من حصول العلم للمذكور. وليس لك هذا في وصف الأمر الشديد المكروه بأنه موت، ألا ترى أن قوله: [من السريع]
لا تحسبنّ الموت موت البلى … وإنما الموت سؤال الرجال (?)