وأمّا الثاني: فعلى معنى أن الفاني كان موجودا ثم فقد وعدم، إلا أنه لما خلّف آثارا جميلة تحيي ذكره، وتديم في الناس اسمه، صار لذلك كأنه لم يعدم.
وأما ما عداهما من الأوصاف فيجيء فيها طريقان:
أحدهما: هذا، وذلك في كلّ موضع كان موضوع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة، وإن كانت موجودة، لخلوّها مما هو ثمرتها والمقصود منها، والذي إذا خلت منه لم تستحق الشّرف والفضل.
تفسير هذا: أنك إذا وصفت الجاهل بأنه «ميّت»، وجعلت «الجهل» كأنه موت، على معنى أن فائدة الحياة والمقصود منها هو «العلم» و «الإحساس»، فمتى عدمهما الحيّ فكأنه قد خرج عن حكم الحيّ، ولذلك جعل النّوم موتا، إذ كان النائم لا يشعر بما بحضرته، كما لا يشعر الميّت.
والدرجة الأولى في هذا أن يقال: «فلان لا يعقل» و «هو بهيمة» و «حمار» وما أشبه ذلك، مما يحطّه عن معاني المعرفة الشريفة، ثم أن يقال: «فلان لا يعلم ولا يفقه ولا يحسّ»، فينفى عنه العلم والإحساس جملة لضعف أمره فيه، وغلبة الجهل عليه، ثم يجعل التعريض تصريحا فيقال: «هو ميّت خارج من الحياة» و «هو جماد»، توكيدا وتناهيا في إبعاده عن العلم والمعرفة، وتشدّدا في الحكم بأن لا مطمع في انحسار غيابة الجهل عنه (?)، وإفاقته مما به من سكرة الغيّ والغفلة وأن يؤثّر فيه الوعظ والتنبيه.
ثم لما كان هذا مستقرا في العادة، أعني جعل الجاهل ميّتا، خرج منه أن يكون المستحقّ لصفة الحياة هو العالم المتيقظ لوجه الرّشد. ثم لمّا لم يكن علم أشرف وأعلى من العلم بوحدانية الله تعالى، وبما نزّله على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، جعل من حصل له (?) هذا العلم بعد أن لم يكن، كأنه وجد الحياة وصارت صفة له، مع وجود نور الإيمان في قلبه، وجعل حالته السابقة التي خلا فيها من الإيمان كحالة الموت التي تعدم معه الحياة، وذلك قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام:
122]، وأشباه ذلك.
من هذا الباب قولهم: «فلان حيّ» و «حيّ القلب» يريدون أنه ثاقب الفهم