أمّا التفريط، فما تجد عليه قوما في نحو قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 210]، وقوله: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22]، و: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]، وأشباه ذلك من النّبوّ عن أقوال أهل التحقيق. فإذا قيل لهم: «الإتيان» و «المجيء» انتقال من مكان إلى مكان، وصفة من صفات الأجسام، وأن «الاستواء» إن حمل على ظاهره لم يصحّ إلّا في جسم يشغل حيّزا ويأخذ مكانا، والله عز وجل خالق الأماكن والأزمنة، ومنشئ كل ما تصحّ عليه الحركة والنّقلة، والتمكن والسكون، والانفصال والاتصال، والمماسّة والمحاذاة، وأن المعنى على: «إلّا أن يأتيهم أمر الله» و «جاء أمر ربك»، وأنّ حقه أن يعبّر بقوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2]، وقول الرجل: «آتيك من حيث لا تشعر»، يريد أنزل بك المكروه، وأفعل ما يكون جزاء لسوء صنيعك، في حال غفلة منك، ومن حيث تأمن حلوله بك. وعلى ذلك قوله: [من الطويل]
أتيناهم من أيمن الشّقّ عندهم … ويأتي الشقيّ الحين من حيث لا يدري
نعم، إذا قلت ذلك للواحد منهم، رأيته إن أعطاك الوفاق بلسانه، فبين جنبيه قلب يتردّد في الحيرة ويتقلّب، ونفس تفرّ من الصواب وتهرب، وفكر واقف لا يجيء ولا يذهب، يحضره الطبيب بما يبرئه من دائه، ويريه المرشد وجه
الخلاص من عميائه، ويأبى إلا نفارا عن العقل، ورجوعا إلى الجهل، لا يحضره التوفيق بقدر ما يعلم به أنه إذا كان لا يجري في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، على الظاهر، لأجل علمه أن الجماد لا يسأل مع أنه لو تجاهل متجاهل فادّعى أن الله تعالى خلق الحياة في تلك القرية حتى عقلت السؤال، وأجابت عنه ونطقت، لم يكن قال قولا يكفر به، ولم يزد على شيء يعلم كذبه فيه فمن حقّه أن لا يجثم هاهنا على الظاهر، ولا يضرب الحجاب دون سمعه وبصره حتى لا يعي ولا يراعى، مع ما فيه، إذا أخذ على ظاهره، من التعرض للهلاك والوقوع في الشرك.
فأمّا الإفراط، فما يتعاطاه قوم يحبّون الإغراب في التأويل، ويحرصون على تكثير الوجوه، وينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقلّه من المعاني، يدعون السليم من المعنى إلى السقيم، ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها، فيعرضون عنها حبّا للتشوّف، أو قصدا إلى التمويه وذهابا في الضلالة.
وليس القصد هاهنا بيان ذلك فأذكر أمثلته، على أن كثيرا من هذا الفنّ مما