وهذا موضع لطيف جدّا لا تنتصف منه إلّا باستعانة الطبع عليه، ولا يمكن توفية الكشف فيه حقّه بالعبارة، لدقّة مسلكه.
ويتصل به أن في «الاستعارة» الصحيحة: ما لا يحسن دخول كلم التشبيه عليه. وذلك إذا قوي التشبّه بين الأصل والفرع، حتى يتمكن الفرع في النفس بمداخلة ذلك الأصل والاتحاد به، وكونه إياه. وذلك في نحو «النور» إذا استعير للعلم والإيمان، و «الظلمة» للكفر والجهل. فهذا النحو لتمكّنه وقوّة شبهه ومتانة سببه، قد صار كأنه حقيقة، ولا يحسن لذلك أن تقول في العلم: «كأنه نور»، وفي الجهل: «كأنه ظلمة»، ولا تكاد تقول للرجل في هذا الجنس: «كأنّك قد أوقعتني في ظلمة» بل تقول: «أوقعتني في ظلمة». وكذلك الأكثر على الألسن والأسبق إلى القلوب أن تقول: «فهمت المسألة فانشرح صدري وحصل في قلبي نور»، ولا تقول: «كأنّ نورا حصل في قلبي».
ولكن إذا تجاوزت هذا النوع إلى نحو قولك: «سللت منه سيفا على الأعداء»، وجدت «كأن» حسنة هناك كثيرة، كقولك: «بعثته إلى العدوّ فكأني سللت سيفا» وكذلك في نحو: «زيد أسد» و «كأن زيدا أسد». وهكذا يتدرج الحكم فيه، حتى كلّما كان مكان الشبه بين الشيئين أخفى وأغمض وأبعد من العرف، كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسن وأكثر في الاستعمال.
ومما يجب أن تجعله على ذكر منك أبدا، وفيه البيان الشافي: أنّ بين القسمين تباينا شديدا أعني بين قولك: «زيد أسد» وقولك: «رأيت أسدا» وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجد الشيء يصلح في نحو: «زيد أسد» حيث تذكر المشبّه باسمه أوّلا، ثم تجري اسم المشبّه به عليه، ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبّه أصلا وتطرحه.
ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قول أبي تمام (?): [من الوافر]
وكان المطل في بدء وعود … دخانا للصّنيعة وهي نار
قد شبّه المطل بالدّخان، والصنيعة بالنار، ولكنه صرّح بذكر المشبّه، وأوقع المشبّه به خبرا عنه، وهو كلام مستقيم.