وإذا كان الأمر كذلك، صار كلامك موضوعا لا لإثبات الشبه بينه وبين البدر، ولكن لإثبات الصّفة في واحد متجدّد حادث من جنس البدر، لم تعرف تلك الصفة للبدر، فيصير بمنزلة قولك: «زيد رجل يقري الضيوف ويفعل كيت وكيت»، فلا يكون قصدك إثبات زيد رجلا، ولكن إثبات الصفة التي ذكرتها له. فإذا خرج الاسم الذي يتعلق به التشبيه من أن يكون مقصودا بالإثبات، تبيّن أنه خارج عن الأصل الذي تقدّم، من كون الاسم لإثبات الشبه. فالبحتري في قوله:
وبدر أضاء الأرض قد بنى كلامه على أن كون الممدوح بدرا، أمر قد استقرّ وثبت، وإنما يعمل في إثبات الصفة الغريبة، والحالة التي هي موضع التعجّب. وكما يمتنع دخول «الكاف» في هذا النحو، كذلك يمتنع دخول «كأن» و «تحسب» و «تخال». فلو قلت: «كأنه بدر أضاء الأرض شرقا ومغربا وموضع رحلي منه مظلم»، كان خلفا من القول.
وكذلك؛ إن قلت: «تحسبه بدرا أضاء الأرض ورحلي منه مظلم»، كان كالأوّل في الضعف. ووجه بعده من القبول بيّن، وهو أنّ «كأن» و «حسبت» و «خلت» و «ظننت» تدخل إذا كان الخبر والمفعول الثاني أمرا معقولا ثابتا في الجملة، إلا أنه في كونه متعلقا بما هو اسم «كأن» أو المفعول الأوّل من «حسبت» مشكوك فيه، كقولنا: «كأن زيدا
منطلق»، أو مجاز يقصد به خلاف ظاهره، نحو: «كأنّ زيدا أسد»، فالأسد على الجملة ثابت معروف، والغريب هو كون زيد إياه ومن جنسه.
والنكرة في نحو هذه الأبيات موصوفة بأوصاف تدلّ على أنك تخبر بظهور شيء لا يعرف ولا يتصوّر. وإذا كان كذلك، كان إدخال «كأن» و «حسبت» عليه، كالقياس على المجهول.
وتأمّل هذه النكتة فإنه يضعف ثانيا إطلاق «الاستعارة» على هذا النحو أيضا، لأن موضوع الاستعارة- كيف دارت القضية- على التشبيه. وإذا بان بما ذكرت أن هذا الجنس إذا فليته عن سرّه، ونقّرت عن خبيئه، فمحصوله أنك تدّعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختصّ بصفة غريبة وخاصية بديعة، لم يكن يتوهّم جوازها على ذلك الجنس، كأنك تقول: «ما كنّا نعلم أن هاهنا بدرا هذه صفته» كان تقدير التشبيه فيه نقضا لهذا الغرض، لأنه لا معنى لقولك: «أشبّهه ببدر حدث خلاف البدور ما كان يعرف».