وإنما اشترطت عليك هذا الشرط لأنه لا يمتنع أن يسبق الأوّل إلى تشبيه لطيف بحسن تأمّله ويدل على ذكائه
وحدّة خاطره، ثم يشيع ويتّسع، ويذكر ويشهر حتى يخرج إلى حد المبتذل، وإلى المشترك في أصله، وحتى يجري مع دقة تفصيل فيه مجرى المجمل الذي تقوله الوليدة الصغيرة والعجوزة الورهاء، فإنك تعلم أن قولنا: «لا يشقّ غباره» الآن في الابتذال كقولنا: «لا يلحق ولا يدرك»، و «هو كالبرق» ونحو ذلك، إلّا أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا علمنا أنه لم يكن كذلك من أصله، وأن هذا الابتذال أتاه بعد أن قضى زمانا بطراءة الشباب وجدّة الفتاء وبعزّة المنيع، ولو قد منعك جانبه وطوى عنك نفسه، لعرفت كيف يشقّ مطلبه ويصعب تناوله.
ومثل هذا وأظهر منه أمرا أنّ قولنا: «أمّا بعد»، منسوب في الأصل إلى واحد بعينه، وإن كان الآن في البذلة كقولنا: «هذا بعد ذاك»، مثلا.
وهذا الحكم في الطرق التي ابتدأها الأوّلون، والعبارات التي لخّصها المتقدمون، والقوانين التي وضعوها حتى صارت في الاشتراك كالشيء المشترك من أوّله، والمبتذل الذي لم يكن الصّون من شأنه، والمبذول الذي لم يعترض دونه المنع في شيء من زمانه، وربّ نفيس جلب إليك من الأمكنة الشاسعة، وركب فيه النّوى الشطون، وقطع به عرض الفيافي، ثم أخفى عنك فضله حتى جهلت قدره أن سهل مرامه، واتسع وجوده، ولو انقطع مدده عنك حتى تحتاج إلى طلبه من مظنّته، لعلمت إحسان الجائي به إليك، والجالب المقرّب نيله عليك، ولأكثرت من شكره بعد أن أقللت، وأخذت نفسك بتلافي ما أهملت.
وكذلك ربّ شيء نال فوق ما يستحقّه من شغف النفوس به، وأكثر مما توجبه المنافع الراجعة إليه، لأنه لا يتسع اتّساع الأوّل الذي فوائده أعمّ وأكثر، ووجود العوض عنه عند الفقد أعسر، فكسبت عزّة الوجود هذا عزّا لم يستحقّه بفضله، كما منعت سعته الآخر فضلا هو ثابت له في أصله.
ويتصل بهذا الموضع حديث عبد الرحمن بن حسّان، وذلك أنه رجع إلى أبيه حسّان وهو صبيّ، يبكي ويقول: «لسعني طائر»، فقال حسان: «صفه يا بنيّ»، فقال: «كأنه ملتفّ في بردى حبرة»، وكان لسعه زنبور، فقال حسّان: «قال ابني الشّعر وربّ الكعبة!» أفلا تراه جعل هذا التشبيه مما يستدلّ به على مقدار قوّة الطبع، ويجعل عيارا في الفرق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعدّ له، وسرّه