الأول ينقص عن الثاني شيئا، وذلك أن السواد الذي في باطن الآذريونة الموضوع بإزاء الغالية والمسك، فيه أمران:
أحدهما: أنه ليس بشامل لها، والثاني: أن هذا السواد ليس صورته صورة الدّرهم في قعرها، أعني أنه لم يستدر
هناك، بل ارتفع من قعر الدائرة حتى أخذ شيئا من سمكها من كلّ الجهات، وله في منقطعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن، إذا كانت بقيّة بقيت عن الأصابع. وقوله: «في قرارتها مسك» يبيّن الأمر الأوّل، ويؤمن من دخول النقص عليه، كما كان يدخل لو قال: «ككأس عقيق فيها مسك»، ولم يشترط أن يكون في القرارة.
وأمّا الثاني: من الأمرين، فلا يدلّ عليه كما يدلّ قوله: «بقايا غالية»، وذلك من شأن المسك والشيء اليابس إذا حصل في شيء مستدير له قعر، أن يستدير في القعر ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي تراه في سواد الأذريونة. وأما الغالية فهي رطبة، ثم هي تؤخذ بالأصابع، وإذا كان كذلك، فلا بدّ في البقيّة منها من أن تكون قد ارتفعت عن القرارة، وحصلت بصفة شبيهة بذلك السواد، ثم هي لنعومتها ترقّ فتكون كالصبغ الذي لا جرم له يملك المكان، وذلك أصدق للشّبه.
ومن أبلغ الاستقصاء وعجيبه قول ابن المعتز: [من الطويل]
كأنّا وضوء الصّبح يستعجل الدّجى … نطير غرابا ذا قوادم جون (?)
شبّه ظلام الليل حين يظهر فيه الصبح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضا، لأن تلك الفرق من الظلمة تقع في حواشيها، من حيث تلا معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيّل منها في العين كشكل قوادم إذا كانت بيضا.
وتمام التدقيق والسّحر في هذا التشبيه في شيء آخر، وهو أن جعل ضوء الصبح، لقوّة ظهوره ودفعه لظلام الليل، كأنه يحفز الدجى ويستعجلها ولا يرضى