بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي رحمة الله عليه ورضوانه:
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين.
اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشف عن صورها، ويجني صنوف ثمرها، ويدلّ على سرائرها، ويبرز مكنون ضمائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان، ونبّه فيه على عظم الامتنان، فقال عزّ من قائل:
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن 1 - 4]، فلولاه لم تكن لتتعدّى فوائد العلم عالمه، ولا صحّ من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه، ولتعطّلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوت القضيّة في موجودها وفانيها.
نعم، ولوقع الحيّ الحسّاس في مرتبة الجماد، ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرّفها معقولة، والأذهان عن سلطانها معزولة، ولما عرف كفر من إيمان، وإساءة من إحسان، ولما ظهر فرق بين مدح وتزيين، وذمّ وتهجين. ثم إنّ الوصف الخاصّ به، والمعنى المثبت لنسبه، أنه يريك المعلومات بأوصافها التي وجدها العلم عليها، ويقرّر كيفياتها التي تناولها (?) المعرفة إذا سمت إليها.
وإذا كان هذا الوصف مقوّم ذاته وأخصّ صفاته، كان أشرف أنواعه ما كان فيه أجلى وأظهر، وبه أولى وأجدر. ومن هاهنا يبيّن للمحصل، ويتقرّر في نفس المتأمّل، كيف ينبغي أن يحكم في تفاضل الأقوال إذا أراد أن يقسّم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدّل القسمة بصائب القسطاس والميزان.
ومن البيّن الجليّ أن التباين في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ما ينافيها من