حصوله، كيف وأكرهُ ما يكون الموت إذا صَفَتْ مشاعر الحياة، وخَصِبتْ مسارح اللذّات، فكلما كانت الحياةُ أمكن وأتمّ، كانت الكراهة للموت أقوى وأشدّ، ولم تخفَّ كراهته على العارفين إلا لرغبتهم في الحياة الدائمة الصافية من الشوائب، بعد أن تزول عنه هذه الحياة الفانية ويُدركهم الموت فيها، فتصوُّرُهم لذّة الأمْن منه، قلَّل كراهتهم له، كما أن ثقةَ العالم بما يُعْقِبه الدواءُ من الصحة، تُهوّن عليه مَرَارَته، فقد عبْرت ها هنا عن شدّة الأمر بالموت، واستعرته له من أجلها، والشّدةُ ومحصُولُها الكراهة، موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه فليس التشبيه إذَنْ من طريق الحُكْم على الوجود بالعدم، وتنزيل ما هو موجود
كأنه قد خَلَعَ صفة الوجود، وذلك أن هذا الحكم إنما جرى في تشبيه الجهل بالموتِ، وجعل الجاهل ميّتاً من حيث كان للجهل ضدٌُّ يُنافي الموت ويضادُّه وهو العلم، فلما أردتَ أن تبالغ في نفي العلم الذي يجب مع نفيه الجهلُ، وجعلتَ الجهلَ موتاً لتُؤْيس من حصول العلم للمذكور، وليس لك هذا في وصف الأمر الشديد المكروه بأنه موت، ألا ترى أن قوله: هـ قد خَلَعَ صفة الوجود، وذلك أن هذا الحكم إنما جرى في تشبيه الجهل بالموتِ، وجعل الجاهل ميّتاً من حيث كان للجهل ضدٌُّ يُنافي الموت ويضادُّه وهو العلم، فلما أردتَ أن تبالغ في نفي العلم الذي يجب مع نفيه الجهلُ، وجعلتَ الجهلَ موتاً لتُؤْيس من حصول العلم للمذكور، وليس لك هذا في وصف الأمر الشديد المكروه بأنه موت، ألا ترى أن قوله:
لا تحسَبَنَّ المَوْتَ مَوْتَ البِلَى ... وإنما الموتُ سُؤالُ الرجالْ
لا يفيد أنّ للسُّؤَال ضدّاً ينافي الموت أو يضادّه على الحقيقة، وأن هذا القائل قصد بجعل السؤال موتاً نَفْىَ ذلك الضدّ، وأن يُؤْيِس من وجوده وحصوله، بل أراد أن في السؤال كراهة ومرارةً مثل ما في الموت، وأن نفس الحرّ تنفِرُ عنه كما تنفر نفوسُ الحيوان جملةً من الموت، وتطلبُ الحياةَ ما أمكن في الخلاص منه،