واعلم أن هذا الضرب هو المنزلةُ التي تبلغ عِندها الاستعارة غاية شرفها، ويتسع لها كيف شاءت المجال في تفنُّنها وتصرُّفها، وها هنا تَخْلُص لطيفةً روحانية، فلا يبصرها إلا ذوو الأذهان الصافية، والعقول النافذة، والطباع السليمة، والنفوس المستعدَّة لأن تَعِيَ الحكمةَ، وتعرف فَصْل الخطاب، ولَهَا ها هنا أساليبُ كثيرة، ومسالك دقيقة مختلفةٌ، والقول الذي يجري مَجْرَى القانون والقسمةِ يغمضُ فيها، إلا أنّ ما يجب أن تعلم في معنى التقسيم لها أنها على أصول أحدها: أن يؤخذ الشَّبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواسّ على الجملة للمعاني المعقولة، والثاني: أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها، إلا أن الشّبه مع ذلك عقليٌّ، والأصل الثالث: أن يؤخذ الشَّبه من المعقول للمعقول، فمثال ما جرى على " الأصل الأول " ما ذكرتُ لك من استعارة النور للبيان والحجّة، فهذا شَبَهٌ أُخِذ من محسوس لمعقول، ألا ترى أن النور مشاهَدٌ محسوس بالبصر، والبيانُ والحجّةُ مما يؤدّيه إليك العقل من غير واسطة من العين أو غيرها من الحواس، وذلك أن الشَّبه ينصرف إلى المفهوم من الحروف والأصوات، ومدلولُ الألفاظ هو الذي ينوِّر القلب لا الألفاظ، هذا والنور يستعار للعلم نفسه أيضاً والإيمان، وكذلك حكم الظلمة، إذا استعيرت للشُّبهة والجهل والكفر، لأنه لا شُبْهةَ في أن الشَّبهَ والشكوك من المعقول،