ومن الواضح في ذلك قوله عز وجل: " فَأحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " " فاطر: 9 "، وقوله: " إنَّ الَّذِي أحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى " " فصلت: 39 "، جعل خُضرة الأَرْض ونَضْرتها وبَهْجتها بما يُظهره اللَّه تعالى فيها من النَّبات والأَنْوار والأَزْهار وعجائب الصنع، حياةً لها، فكان ذلك مجازاً في المُثبَت، من حيث جعل ما ليس بحياةٍ حياةً على التشبيه، فأَما نفس الإثبات فمحضُ الحقيقة، لأنه إثباتٌ لما ضرب الحياة مثلاً له فعلاً للَّه تعالى، لا حقيقةَ أحقّ من ذلك، وقد يُتَصوَّر أن يدخل المجاز الجملةَ من الطريقين جميعاً، وذلك أنْ يُشبَّه معنًى بمعنًى وصفةٌ بصفةٍ، فيستعار لهذه اسمُ تلك، ثم تُثبَت فعلاً لما لا يصحّ الفِعْل منه، أو فعلُ تلك الصفة، فيكون أيضاً في كل واحد من الإثبات والمثبَت مجازٌ، كقول الرجل لصاحبه أحيَتْني رؤيتُك، يريد آنسَتْني وسََرَّتْنِي ونحوه، فقد جعل الأُنس والمسرَّة الحاصلةَ بالرؤية حياةً أوَّلاً، ثم جعل الرؤية فاعلةً لتلك الحياة، وشبيهٌ به قول المتنبي:
وتُحيى لَهُ المالَ الصَّوارِمُ والقَنَا ... ويقتلُ ما تُحيي التَّبسُّمُ والجَدَا
جعل الزيادة والوفور حياةً في المال، وتفريقه في العطاء قتلاً، ثم أثبتَ الحياة فعلاً للصوارم، والقتل فعلاً للتبسم، مع العلم بأنَّ الفعل لا يصحُّ منهما، ونوع منه أهْلَكَ النَّاسَ الدينارُ والدرهمُ، جعل الفتنة هلاكاً على المجاز، ثم أثبت الهلاك فعلاً للدينار والدرهم، وليسا مما يفعلان فاعرفه.