والنقر، فكما أن تلك تُعجب وتَخْلب، وتَروقُ وتُؤْنِق، وتَدْخُل النفسَ من مشاهدتها حالةٌ غريبة لم تكن قَبْلِ رؤيتها، ويغشاها ضربٌ من الفتنة لا يُنكَر مكانه ولا يخفى شأنه. فقد عَرَفْت قضيَّة الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها والإعظام لها، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصُوَر، ويُشكّله من البِدَع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يُتوَّهم بها الجماد الصامتُ في صورة الحيّ الناطق، والمواتُ الأَخرس في قضية الفصيح المُعرب والمُبيّن المميِّز، والمعدومُ المفقود في حكم الموجود المشاهَد، كما قدَّمتُ القول عليه في باب التمثيل، حتى يكسب الدنيُّ رفعةً، والغامضُ القدرِ نباهةً، وعلى العكس يغضُّ من شرف الشريف، ويطأُ من قَدْرِ ذي العِزَّة المنيف، ويظلم الفضل ويَتَهضَّمُه، ويَخْدِش وجه الجمال ويَتَخَوَّنُه، ويُعطي الشبهةَ سُلطانَ الحجّة، ويردُّ الحجَّة إلى صيغة الشبهة، ويصنع من المادة الخسيسة بِدَعاً تغلو في القيمة وتعْلو، ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكيمياء وقد صَحَّت، ودعوى الإكْسِير وقد وَضَحت، إلاّ أنها روحانية تتلبّس بالأوهام والأفهام، دون الأجسام والأجرام، ولذلك قال:
يُرِي حِكْمةً ما فيه وَهْوَ فُكاهةٌ ... ويَقْضِي بما يَقْضِي به وهو ظالمُ
وقال:
عَليمٌ بإبْدالِ الحروف وقامعٌ ... لكلِّ خطيبٍ يَقْمَع الحقَّ باطلُهْ