هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة، لأن الإنسان لا يعجبه أن يُدركه الشيب، فإذا هو أدركه كره أن يفارقه، فتراه لذلك يُنكره ويتكرَّهه على إرادته أن يدومَ له، إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق، كانت الكراهةُ والبغضاء لاحقةُ للشيب على الحقيقة، فأما كونه مُرَاداً ومودوداً، فمتخيَّلٌ فيه، وليس بالحقَّ والصدق، بل المودود الحياة والبقاءُ، إلا أنه لما كانت العادة جاريةً بأنّ في زوال رؤية الإنسان للشيب، زوالَه عن الدنيا وخروجه منها، وكان العيش فيها محبَّباً إلى النفوس، صارت محبّته لما لا يَبْقَى له حتى يبقى الشيب، كأنّها محبّة للشيب. من ذلك صَنِيعهم إذا أرادوا تفضيلَ شيء أو َقْصَه، ومدحه أو ذمَّه، فتعلّقوا ببعض ما يشاركُه في أوصافٍ ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة، وظواهرِ أُمورٍ لا تَصحّح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة، كما تراه في باب الشيب والشباب، كقول البحتري:
بَيَاضُ البازيِّ أصدقُ حسنا ... إنْ تأمّلتِ من سَواد الغُرابِ
وليس إذا كان البياضُ في البازي آنَقَ في العين وأخلق بالحسن من السواد في الغراب، وجب لذلك أن لايُذَمَّ الشيبُ ولا تنفرُ منه طباع ذوي الألباب، لأنه ليس الذنب كلَّه لتحوُّل الصِّبْغ وتبدُّل اللون، ولا أتَت الغواني ما أتت من الصدّ والإعراض لمجرَّد البياض، فإنهن يرينه في قُباطيّ مصر فيأنسن، وفي أنوار الرَّوض وأوراق النرجس الغضّ فلا يعبِسْن، فما أنكرن ابيضاض شَعَر الفتى