وأما القسم التخييلي، فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صِدقٌ، وإنَّ ما أثبتَه ثابت وما نفاه منفيّ، وهو مفتنُّ المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يُحصَر إلاّ تقريباً، ولا يُحاط به تقسيماً وتبويباً، ثم إنه يجيء طبقاتٍ، ويأتي على درجاتٍ، فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تُلُطِّف فيه، واستعين عليه بالرِفق والحِذق، حتى أُعطَي شَبَهاً من الحقّ، وغُشِّي رَوْنَقاً من الصّدق، باحتجاج تُمُحِّل، وقياسٍ تُصُنِّع فيه وتُعُمِّلَ، ومثالُه قول أبي تمام:
اتُنكري عَطَلَ الكَريم من الغِنَى ... فالسَّيلُ حَرْبٌ للمكانِ العالى
فهذا قد خَيَّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلوّ، والرِّفعة في قدره، وكان الغِنَى كالغَيْث في حاجة الخلق إليه وعِظَمِ نَفْعه، وجب بالقياس أن يزِلَّ عن الكريم، زَلِيلَ السَّيل عن الطَّوْد العظيم، ومعلومٌ أنه قياسُ تخييلٍ وإيهامٍ، لا تحصيلٍ وإحكام، فالعلّة في أن السيل لا يستقرّ على الأمكنة العالية، أن الماء سيَّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانبُ تَدْفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال، وأقوى من هذا في أن يُظنَّ حقّاً وصدقاً، وهو على التخيّل قوله:
لشيبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أن يفارِقَني ... أَعْجِبْ بشيءٍ على البَغْضَاء مَوْدودِ