فأمّا وأنت تريد المبالغة، فلا يجيء لك ذلك، لأن الصفات المذكورة لا يُواجَه بها الممدوحون، ولا تُسْتعار الأسماء الدالّة عليها لهم إلا بعد أن يُتدارك وتُقرَن إليها أضدادها من الأوصاف المحبوبة، كقوله " أنت الصَّاب والعَسَلُ " ولا تقول وأنت مادح أنت الصابُ وتسكت، وحتى إن الحاذقَ لا يرضى بهذا الاحتراز وحده حتى يزيد ويحتال في دفع ما يَغْشَى النفسَ من الكراهة بإطلاق الصفة التي ليست من الصفات المحبوبة، فيصل بالكلام ما يخرُج به إلى نوع من المدح، كقول المتنبي:
حَسَنٌ في وُجوهِ أعدائهِ أقْ ... بَحُ من ضَيْفه رَأَته السَّوَامُ
بدأ فجعله حسناً على الإطلاق، ثم أراد أن يجعله قبيحاً في عيون أعدائه، على العادة في مدح الرجل بأن عدوَّه يكرهه، فلم يُقنعه ما سبق من تمهيده وتقدّم من احترازه في تلاقي ما يجنيه إطلاق صفة القُبح، حتى وصل به هذه الزيادةَ من المدح، وهي كراهةُ سَوامِهِ لرؤية أضيافه، وحتى حصل ذكرُ القبح مغموراً بين حُسنين، فصار كما يقول المنجّمون: يقع النَّحس مضغوطاً بين سَعْدين، فيبطل فعله وينمحق أثره. وقد عرفتَ ما جَناه التهاوُنُ بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمّام، حتى صار ما يُنعَى عليه منه أبلغ شيء في بسط لسان القادح فيه والمُنْكِر لفضله، وأحْضَر حُجّةً للمتعصّب عليه، وذلك أنه لم يُبالِ في كثير من مخاطبات