ثم قال: ومن الذي يسمونه ذو بيت:
قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ... ليلا عساه يهتدي بالنار
واعلم أن الذوق من معرفة البلاغة منها كلها إنما يحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب لأن اللسان الحضري وتركيبته مختلفة فيهم وكل واحد منهم مدرك بلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل بلدته وفي خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين.
انتهى كلام أبن خلدون في ديوان العبر ببعض الاختصار.
قلت: كأن بمنتقد ليس له خبره يسدد سهام الاعتراض ويتولى كبره ويقول: ما لنا وإدخال الهزل في معرض الجد الصراح؟ والذي أحوجنا إلى ذر هذا المنحى والأليق طرحه كل الاطراح؟ فنقول في جوابه على الإنصاف: لم تزل كتب الأعلام مشحونة بمثل هذه الأوصاف وليس مرادهم إيثار الهزل على غيره وإنما ذلك من باب ترويح القلب وهو أعون على خيره وللسلف في مثل ذلك حكايات يطول جلبها ولا يقدح ذلك في سكينتهم ولا يتوهم لسببه سلبها ويرحم الله تعالى عياض إذ قال:
قل للأحبة والحديث شجون ... ما ضر أن شاب الوقار مجون
والأبيات الآتية في محلها.