عاشت المدينة في هذا العصر فتراتٍ مختلفة من الاستقرار والاضطراب وظهر فيها علماء وأدباء كما ظهر أصحاب فتن وقلاقل، فكانت الحياة فيها تسير في تيارين متضادين: تيار العلم والعبادة وأعمال الكسب اليومية، وتيار الصراع السياسي والعسكري بين أبناء الأسرة الواحدة على الإمارة، ومع أبناء العم حكام مكة أحياناً وكانت هذه الصراعات تؤثر على أهل المدينة أحياناً وأحياناً تقتصر على المتصارعين وأتباعهم.

وطوال هذا العهد كانت المدينة المنورة مرتبطة بالسلطان المملوكي في القاهرة وكان هذا الارتباط سياسياً ومالياً محدوداً، أما الجانب السياسي فيه فيشمل تولية الأمير بمرسوم سلطاني وعزله، وتكريمه أو القبض عليه وسجنه حتى الموت. ولكن التولية والعزل محصورة في آل المهنا: الأسرة الحسينية التي توارثت الإمارة معظم هذا العهد فقد يعزل السلطان أميراً ويولي أخاه أو ابن عمه ولكن لا تخرج الإمارة عن الأسرة. كما يشمل الارتباط السياسي تعيين القاضي لمدة نصف سنة فقط يأتي من مصر مع أحد القافلتين، قافلة الحج أواخر ذي القعدة وقافلة العمرة أوائل رجب.

وأما الجانب المالي فيشمل الرواتب والأعطيات التي يرسلها السلطان لأمير المدينة وعدد من الأعيان والأشراف فضلاً عن الصدقات المخصصة للفقراء والمجاورين والأربطة. وكان لهذا الارتباط السياسي في بعض الحالات آثار سلبية. تزيد حدة الصراع بين أفراد الأسرة الواحدة وذلك عندما أصبح تولية الأمير وعزله يعتمد على الوشايات أو الرشاوي والهدايا السنية. ومن الأخطاء التي وقعت في هذا المجال أن السلطان المملوكي كان يعين أحياناً أميرين على المدينة ويطلب منهما أن يشتركا معاً في الحكم، فيختلف الأميران بعد حين ويقع الصراع السياسي وقد يتحول إلى قتال بين رجال كل منهما.

ومن الملاحظ أن ارتباط المدينة بالسلطان المملوكي لم يمنع وقوع الاشتباكات بين بعض أمراء المدينة وأبناء عمومتهم في مكة فلم تكن للمماليك قوة عسكرية مقيمة في المدينة، وكانت القوة تأتي مع قافلة الحج، وكانت كبيرة وقادرة على القبض على الأمير إذا كان السلطان المملوكي غاضباً عليه أو كثرت إساءاته .. باستثناء ذلك كان أمير المدينة يتصرف دون الرجوع إلى السلطان المملوكي في شيء، فكان الأمراء الصالحون ينشرون في المدينة الأمن والاستقرار والعدل فتنتعش الحياة الاقتصادية وتستمر الحركة العلمية في جريانها، فيما كان الأمراء غير الصالحين يشحنون جو المدينة بالاضطراب وربما جندوا عدداً من أهل المدينة في حملاتهم ضد خصومهم، وكان بعضهم عندما يطرد من الإمارة يتحول إلى ناقم يسعى للثأر فيجمع حوله الرجال، ويستميل بعض الأعراب ويهاجم المدينة لينتقم من أميرها الجديد، وفي سياق انتقامه ربما قتل رجاله من لا علاقة لهم بالإمارة، وربما نهبوا بعض البيوت والمحلات.

أهم الأحداث في العهد المملوكي

شهدت المدينة في هذا العهد أحداثاً متميزة، أهمها: البركان الذي انفجر في حرة واقم (الحرة الشرقية) في رجب سنة 654 هـ، وبعض السيول والزلازل، والأوبئة واحتراق المسجد النبوي مرتين، والصراع على الإمارة في بعض الفترات. وكل ذلك أوقع الخوف والذعر في نفوس أهل المدينة، فلجؤوا إلى المسجد النبوي باكين متضرعين لله كاشف الغمة، وجاء الأمير منيف بن شيحة فتبرأ من الظلم وأعتق مماليكه وتدفق نهر من الحمم البركانية باتجاه المدينة ثم انعطف شمالاً ونجَّى الله المدينة من ويلاته، وقد استمر تفجره اثنين وخمسين يوماً ثم هدأ.

والطريف أن المصادر التاريخية القديمة كلها لم تكن تستخدم مصطلح بركان، ولا كان الناس يعرفونه بل كانوا يطلقون عليه (النار العظيمة). وفي رمضان من العام نفسه كان أحد خدام المسجد النبوي في مخزن المسجد يحمل سراجاً يستضيء به فاشتعلت النيران في المخزن ثم امتدت إلى أرجاء المسجد فاحترق السقف وسقط واحترق معظم ما في المسجد باستثناء الحجرة الشريفة. وانتشر الخبر في أرجاء العالم الإسلامي فأرسل المستعصم ـ آخر الخلفاء العباسيين ـ والسلاطين الآخرون الأموال وأعيد بناء المسجد.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015