تولى عثمان بن عفان t الخلافة بعد استشهاد عمر بن الخطاب t في محرم سنة 24 للهجرة، وكان في السبعين من عمره، غنياً وديعاً ليناً. عاشت المدينة ـ والبلاد الإسلامية الأخرى ـ ست سنوات من خلافته في سعة وطمأنينة، وكتائب الجهاد تفتح البلاد والخيرات تفد على المدينة والناس يشتغلون بالعلم وبأمور حياتهم اليومية وتتسع المدينة فتصل إلى جبل سلع والقبلتين وقباء ويبدأ البناء على وادي العقيق ويتفقد عثمان أحوال السوق بنفسه.
وفي عام 29 هـ جدد عمارة المسجد النبوي فبناه بالحجارة المنقوشة ووسعه، وفي عام 30 هـ كلف بعض الصحابة بتدقيق المصحف وفق النسخة التي جمعت في عهد أبي بكر وكتبت نسخة موحدة مدققة وأرسلت نسخ منها للأمصار، ومضت السنوات الست في حياة أهل المدينة هادئة وادعة وعثمان يسع الناس بحلمه في أمورهم الدنيوية ويقف بالمرصاد لأي انتهاك للحرمات ويقيم الحدود، وانتشر الثراء بين عدد من أهل المدينة.
الفتنة الكبرى
في عام 32 هـ بدأت خيوط الفتنة على يد يهودي ادعى الإسلام هو عبد الله بن سبأ، استغل الرخاء وحلم الخليفة وبدأ ينسج الشائعات المثيرة حوله، فكُشِفَ أمره وطُرِد من المدينة فخرج إلى الكوفة، ثم البصرة ثم مصر يحرض بمكر شديد على الخليفة وأمرائه ويدعو للثورة عليهم ونجح في استثارة عدد من الناس، فتكاتبوا وتجمعوا في المدينة قبل الحج عام 35 هـ وعاملهم الخليفة بحلمه الواسع أول الأمر فحاورهم ودحض الافتراءات التي استثارتهم، فخرجوا من المدينة، لكنهم ما لبثوا أن عادوا إليها وحاصروا الخليفة في بيته وزعموا أنهم اكتشفوا رسالة من الخليفة إلى والي مصر تأمر بقتلهم، ولم يكن لعثمان جيش أو شرطة قادرة على مقاومتهم، فانتشروا في المدينة وأخذوا يتصرفون في أمورها. وبلغهم أن جيشاً قادماً من الشام لنصرة الخليفة فاقتحموا على عثمان بيته وحاول الشباب من أبناء الصحابة حمايته، لكن أصحاب الفتنة تغلبوا عليهم وقتلوا عثمان وهو يقرأ القرآن. فكان قتله أكبر فاجعة تسوقها الفتنة وعم الاضطراب أنحاء المدينة، وحاول زعماء الفتنة إقناع علي وطلحة والزبير بتولي الخلافة فرفضوا. وبعد ثمانية أيام من الإلحاح والفوضى رأى علي t أن يتدارك الأمر قبل أن يستفحل فقبل تولي الخلافة ليعالج الموقف بحكمة.
المدينة في خلافة علي بن أبي طالب
((36 ـ 40 هـ))
تولى علي بن أبي طالب t الخلافة سنة 36 للهجرة بعد استشهاد الخليفة الثالث عثمان بن عفان t، وكان همه الأول إعادة الأمن والطمأنينة إلى المدينة والقضاء علي جذور الفتنة فيها، ثم في الأمصار التي انطلقت منها، واستطاع إخراج المتآمرين منها، وأبعد الأعراب الذين حاولوا أن يستغلوا ظروف الفتنة فزحفوا إلى ضواحي المدينة وانتظم الأمن، وبدأ بمعالجة شؤون الأمصار فعزل الولاة الذين ثارت حولهم الشائعات واستغلها أصحاب الفتنة وأرسل ولاة آخرين. ولكن الفتنة انتقلت من المدينة إلى خارجها، فقد طالب بعض الصحابة ـ وعلى رأسهم السيدة عائشة رضي الله عنها ـ بالقصاص من القتلة وكانت قد خرجت من المدينة للحج قبل استشهاد عثمان، فلما بلغها استشهاده توجهت إلى العراق مع جمع من الصحابة، ورفض معاوية بيعة علي ورد واليه على الشام ورفع شعار الثأر لعثمان، فاضطر علي للخروج بمن تطوع معه لوقف انتشار الفتنة وتوجه للجمع الذي رافق السيدة عائشة رضي الله عنها لإقناعهم بالعودة إلى المدينة، ولكن بعضهم استطاع أن يثير القتال بين رجال علي والجماعة المحيطة بالسيدة عائشة، وقتل عدد من الصحابة حول الجمل الذي كانت تركبه السيدة عائشة، واستطاع علي ورجاله أن يضبطوا الأمور وينهوا القتال، وعادت السيدة عائشة ومرافقوها إلى المدينة معززة مكرمة، ولكن علياً وجيشه لم يعودوا بل توجهوا إلى الكوفة ونزلوا فيها يعدون لمواجهة الخلاف مع معاوية، واستخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري فبدأ الهدوء يخيم على الحياة في المدينة وبدأت تبتعد عن الأحداث الكبيرة التي تجري في العراق والشام، ولكن عدداً من أبنائها كانوا مع علي t في الكوفة وفي صفين وفي التحكيم بينه وبين معاوية. وتوقف النزوح إليها وباستثناء من بقي من أهلها والوافدين لزيارة المسجد النبوي لم يعد يقصد المدينة أحد، وتقلص عدد سكانها وتقلصت الحركة الاقتصادية فيها تبعاً لذلك.
وفي عام 38 هـ توفي سهل بن حنيف أمير المدينة فولى علي أبا أيوب الأنصاري، وكان متقدماً في السن وديعاً فحافظ على سيرة خلفه، وقل عدد القوافل القادمة فازداد الاهتمام بالزراعة لتأمين الحاجة الأولية للغذاء، وعندما شغل علي بقتال الخوارج في العراق أرسل معاوية جيشاً إلى المدينة بقيادة بسر بن أرطأة فتركها أبو أيوب ودخل الجيش سلماً وأخذ البيعة لمعاوية ولكن بسر بن أرطأة نقض الأمان لمن اتهموا بمظاهرة الخارجين على عثمان وقتل من وصل إليهم وهدم دورهم. ثم خرج من المدينة بجيشه واستخلف عليها أبا هريرة فعاد أبو هريرة بالناس إلى حياة الطمأنينة ودروس المسجد النبوي، وابتعد بالناس عن الفتنة. ثم جاء جيش لعلي بن أبي طالب بقيادة جارية بن قدامة. فترك أبو هريرة المدينة. ووصل جارية مع وصول خبر استشهاد علي بن أبي طالب في الكوفة فأخذ البيعة لابنه الحسن بن علي ثم خرج ليلحق بالحسن وعاد أبو هريرة فأحسن الناس استقباله، وواصل سيرته القويمة فيهم، وعاش أهل المدينة تلك الفترة حياتهم بين مشاغلهم اليومية، وحلقات العلم في المسجد النبوي. وما لبثت الفتنة أن خمدت عندما تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية، وعاد بمن معه من أهل المدينة إليها، وتحولت المدينة إلى مدينة هادئة، وصارت إمارة من إمارات الدولة الأموية الجديدة.
---------------------
للتوسع:
تاريخ الإسلام للذهبي المجلد الثالث.
البداية والنهاية ج/6 - 7
¥