أولا: عدم ادعاء العصمة للمجاهدين، بل هم بشر يخطئون ويصيبون، والخطأ لا يدافع عنه بل يقال إنه خطأ ومخالفة، وهذا ما ذكره الله في الآية الكريمة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ).
فذكر سبحانه أن قتال المجاهدين في الشهر الحرام خطأ كبير، ولكن هذا الخطأ لا يهدر به جهاد المجاهدين وبلاؤهم الحسن ومقصدهم الحسن في جهادهم، وهو ابتغاء مغفرة الله ورحمته، بل يوضع في حجمه الطبيعي، ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل طيب قلوب هؤلاء المجاهدين المخطئين بعد ذلك بقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يَرجون رحمة الله والله غفور رحيم).
وهكذا يكون التعامل مع أخطاء المجاهدين بحيث ينكر عليهم خطؤهم ولا يقرون عليه، وفي الوقت نفسه لا ينسى لهم بلاؤهم وجهادهم وتنكيلهم في عدوهم، وهجرهم لأهلهم وأوطانهم، وهذا ما يتضح بجلاء في هديه صل الله عليه وسلم في تعامله مع أخطاء بعض الصحابة رضي الله عنهم أثناء جهادهم في سبيل الله.
فهذا أسامة بن زيد عندما قتل المشرك الذي شهد أن لا إله إلا الله بحجة أنه قالها متعوذا وخوفا من السيف، عاتبه النبي عتابا شديدا وأوقف أسامة على خطئه، ومع ذلك بقي هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت مكانته عنده لم تتغير، حتى إنه أمّره قبيل وفاته بالجيش المعروف بجيش أسامة، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما عنفه النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من فعله وقتله لمن أظهر الإسلام من بني جذيمة، لم يمنعه ذلك من إبقائه في قيادة العمليات الجهادية المتتالية في عهده وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
فهل بعد هذا الهدي النبوي في تعامله مع أخطاء المجاهدين من عذر لبعض الدعاة هداهم الله الذين ينسون جهاد المجاهدين وبلاءهم الحسن، ويسعون إلى إقصائه بمجرد أن يصدر منهم خطأ أو مخالفة شرعية في قولهم أو فعلهم، إن هذا ليس العدل.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في تعليقه على قصة عبدالله بن جحش وما نزل فيها من الآيات: (وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَلَمْ يُبْرِئْ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْإِثْمِ بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بَلْ أَخْبَرَ أَنّهُ كَبِيرٌ و أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُجَرّدِ الْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ، فَهُمْ أَحَقّ بِالذّمّ وَالْعَيْبِ وَالْعُقُوبَةِ لَا سِيّمَا وَأَوْلِيَاؤُهُ كَانُوا مُتَأَوّلِينَ فِي قِتَالِهِمْ ذَلِكَ أَوْ مُقَصّرِينَ نَوْعَ تَقْصِيرٍ يَغْفِرُهُ اللّهُ لَهُمْ فِي جَنْبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ التّوْحِيدِ وَالطّاعَاتِ وَالْهِجْرَةِ مَعَ رَسُولِهِ وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللّهِ فَهُمْ كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعٍ
فَكَيْفَ يُقَاسُ بِبَغِيضٍ عَدُوّ جَاءَ بِكُلّ قَبِيحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِشَفِيعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحَاسِنِ). زاد المعاد، 3/ 170.
ثانيا: ومن المواقف المهمة المستوحاة من الآية الكريمة في الحديث عن أخطاء المجاهدين: الحذر الشديد من توظيف الكفرة والمنافقين الكلام عن أخطاء المجاهدين في الشماتة بهم وبالمسلمين وبالتنفير من الجهاد وأهله.
ولقطع الطريق أمام الكفرة والمنافقين من توظيف الحديث في صالحهم والتنفير من المجاهدين؛ نرى في الآية الكريمة أن الله تعالى عندما ذكر أن القتال في الشهر الحرام كبيرة، أتبعه في الآية نفسها بالتشنيع على الكفار وما يقومون به من العدوان والصد عن سبيل الله تعالى مما هو في جرمه وشناعته أكبر وأشد من خطأ المجاهدين، ويوضح الله عز وجل ذلك في قوله: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
أي أن ما يقوم به الكفار من صد عن سبيل الله وكفر به بالله وإخراج المسلمين من المسجد الحرام والشرك بالله (أكبر عند الله من القتل).
وبهذا يُقطَع الطريق على الكفرة والمنافقين من أن تتم فرحتهم بأخطاء المجاهدين؛ بأن تذكر فضائح الكفار وعدوانهم وصدهم عن سبيل الله عز وجل، وعندئذ لا يستطيعون استغلال الحديث في صالحهم ضد المسلمين.
فيا ليت إخواننا الدعاة الذين يتحدثون اليوم عن أخطاء المجاهدين ينهجون هذا المنهج الرباني، فيقرنون حديثهم ونقدهم لأخطاء المجاهدين بذكر ما هو أكبر وأشنع مما يقوم به اليوم الكفرة الغزاة وأولياؤهم والمنافقون من قتل وتشريد وسجن وتجويع وحصار خانق على المسلمين وصد عن سبيل الله عز وجل، وقبل ذلك كفرهم بالله ومحادّتهم للإسلام وأهله في بلاد العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين والصومال.
هذا هو المنهج القرآني المستوحى من آية البقرة الآنفة الذكر.
أما أن يفرد المجاهدون بالنقد ويترك الكفرة المعتدون والمنافقون الخائنون لا تذكر فضائحهم، ولا يذكر عدوانهم وإرهابهم وصدهم عن سبيل الله فهو من جانب: منهج جائر ينظر بعين واحدة، ومن جانب آخر: يسهل الطريق على الكفرة الغزاة والمنافقين ومن معهم في الشماتة بالمجاهدين ويوظف ذلك في مصالحهم وأهدافهم.
أسأل الله عز وجل أن ينصر المجاهدين في كل مكان، وأن يجنبهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأن يؤلف بين قلوبهم، ويكبت عدوهم من الكفرة والمنافقين، والحمد لله رب العالمين.
¥