ـ[أبو علي الذهيبي]ــــــــ[08 - Mar-2009, صباحاً 09:27]ـ
الاعتذار للعلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد: فإن من حَقِّ العالم المسلم المتمسك بأهداب السنة والجماعة أن يُلتمس له العذر إذا بدت منه هفوةٌ في قلم أو لسان , وأن يُستر عليه ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً , وإن رأينا لكلامه محملاً حسناً وتخريجاً صالحاً حملنا كلامه عليه ودفعنا به إليه؛ فإن أعيانا التخريج لكلامه قلنا هي زلة مغمورة في بحر , فغضضنا الطرف عنها , ولم نجعلها ذريعة للتشفي منه أو التشنيع عليه , أو وسيلة لإسقاطه وحرمان الناس من علومه النافعة.
ولقد كان العلماء على هذه الطريقة في التعامل مع الهفوات والزلات , أو ما يُظن أنه زلة وله وجه صالح ومحمل حسن يمكن حمله عليه.
فلم يكن من نهجهم ما نراه اليوم من إبراز الزلة وتفخيمها والتشنيع بها على قائلها والسعي لإسقاطه بها , بل الحكم على قائلها بالبدعة والضلالة من أجلها!
فهي زلة , ليست أصلاً ولا قاعدة عند مَن قالها , ولو نُبِّه عليها لتراجع عنها وتبرأ منها , كما هو دأبُ المنصفين من العلماء.
وهذه نماذج من الخُلُق السامي والأدب الرفيع الذي كان يَتحلَّى به العلماء , ولا يَزال منهم بحمد لله بقية صالحة تترسم هذه الخُطى المباركة.
قال الإمام الحافظ محمد بن يحي الذهلي , حين بلغه وفاة أحمد بن حنبل: ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
قلت: فهذه الكلمة لو قالها أحد العلماء المعاصرين لقامت عليه حدَّادية العصر فبدَّعوه وضلَّلوه ورموا به في البحر الميت! غير آسفين عليه , ولا مُلتفتين إليه!
ولكن اسمع إلى ما قال الحافظ الذهبي رحمه الله معتذراً للذهلي، حيث أورد هذه الكلمة في ترجمة الإمام أحمد في " سير أعلام النبلاء " فعقَّب عليها بقوله: قلت: تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع. انتهى
ومضى الذهبي في سلامة الله من غير تشنيع ولاقدح ولاتنقيص من قدر الذهلي رحمه الله.
وفي ترجمة الحافظ المتقن النسَّابة محدث الديار المصرية عبدالغني بن سعيد المتوفَّى سنة (409) , قال أبو الوليد الباجي: عبد الغني بن سعيد حافظ متقن، قلت لابي ذر الهروي: أخذت عن عبد الغني؟ فقال: لا إن شاء الله.
على معنى التأكيد، وذلك أنه كان لعبد الغني اتصال ببني عبيد، يعني أصحاب مصر.
أورد الخبر الذهبيُّ في " سير أعلام النبلاء " ثم قال معتذراً للحافظ عبدالغني: قلت: اتصاله بالدولة العبيدية كان مداراةً لهم، وإلا فلو جمح عليهم، لاستأصله الحاكمُ خليفة مصر، الذي قيل: إنه ادعى الالهية.
وأظنه ولي وظيفة لهم، وقد كان من أئمة الاثر، نشأ في سنة واتباع قبل وجود دولة الرفض، واستمر هو على التمسك بالحديث، ولكنه دارى القوم، وداهنهم، فلذلك لم يحب الحافظ أبو ذر الاخذ عنه. انتهى
وقد ترجم أحدُ العلماء المعاصرين للإمام ابن القيم رحمه الله , فقال عنه: جلس مدةً لإنكار شد الرحل لزيارة قبر الخليل , ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم , ولكنه معجب برأيه جرىء على أمور. انتهى
فانبرى الإمام الشوكاني رحمه الله للدفاع عن الإمام ابن القيم , في كتابه " البدر الطالع " حيث أورد هذه الكلمة فتعقبها بقوله: قلت: بل كان متقيدا بالأدلة الصحيحة , معجبا بالعمل بها , غير مُعوِّل على الرأي , صادعا بالحق , لا يحابى فيه أحدا , ونعمت الجرآة. انتهى
ومن الأمثلة على تأني العلماء وتركهم الرمي بالوهم والغلط , ما قاله ابن الأثير رحمه الله في كتابه " جامع الأصول 6/ 382 " حيث أورد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في النهي عن الوصال في الصيام , وقد أخرجه البخاري , فقال عقبه: ولم أجد هذا الحديث في كتاب الحميديِّ، وقد ذكره البخاري في كتاب الصوم، في باب الوصال , بعد حديث أنس، ولا أعلم سبب سُقُوطه من كتاب الحميديِّ الذي قرأتُهُ ونقلتُ منه، ولعله يقعُ في نسخة أخرى لكتابه، أو أنَّهُ لم يكن في كتاب البخاري الذي رواه الحميديُّ، ونقل منه، والله أعلم. انتهى.
فتامل في الأدب حيث لم يرمِ الحُميدي بالغلط , بل التمس له العذر , وخرَّج له التخاريج.
¥