ولك أن تتفكر في نسبية الزمن عند تقلّب أحوال النفس الإنسانية، بين شتّى ضروب الانتظار مثلا .. عندما تنتظر حلول لحظة سعيدة لم يبق بينك وبينها إلا لحظات يسيرة من دقائق معدودات .. تَشعُر أنها تمر ببطء شديد، وتقلق من "طول" الانتظار؛ فكأنّ وقع الدقائق تلك في نفسك عدة أعوام. وعندما تحلّ اللحظة السعيدة، تشعر -رغم طول مدتها بالنسبة إلى لحظات الانتظار- أنها قصيرة جدا، فكأن وقتها يتصرم منك تصرما. الزمن نسبي .. وتلك هي حقيقة الأعمار.
الطول والعرض في الأعمار
والعمر -عند التفكر في الخلق الإلهي- هو حقيقة الإنسان. إذ ليس المرء إلا بداية ونهاية! ساعة ولادة فساعة وفاة. ولكن .. شتان شتان بين عمر وعمر! ليس ذلك باعتبار الطول والقصر؛ إذ الأعمار كلّها قصيرة كما أسلفنا، ولكن باعتبار العرض والضيق، إذ قد يكون العمر طويلا -حسب العد البشري النسبي- ولكن يكون ضيقا من غير سعة. كما قد يكون قصيرا بالاعتبار نفسه، ولكنه عريض جدا، حتى لكأنه لا يكاد ينتهي أبدا.
وبيان ذلك بالمثال التالي: هَبْ أن العمر عبارة عن طريق يقطعها الإنسان، لها امتداد طولي وآخر عرضي. والعادة أن الإنسان إنما ينتبه إلى الطول؛ لأن ذلك هو المتعلق بمفهوم الزمن (الماضي والحاضر والمستقبل)، ولكنه قلّما ينتبه إلى العرض؛ لأن هذا إنما يتعلق بالأعمال والمنجزات خلال كل فترة من فترات الزمن.
فالإنسان في سيره خلال عمره نوعان: نوع يخطو دون أن ينتبه إلى عرض الوقت، فيلتهم من طوله ما هو مقدّر له، فلا يشعر ببركة العمر مهما طال، حسب العد البشري النسبي. ونوع ينتبه إلى العرض؛ ولذلك فهو إذ يخطو الخطوة الواحدة من عمره، لا ينتقل إلى الثانية حتى يخطو مثلها على عرض الطريق لا على طولها ليعيش باقي اللحظات التي هي من الخطوة الطولية الأولى نفسها التي خطاها.
وهكذا يبقى يخطو على عرض الطريق حتى يستوعب كل عرضها. وحينئذ فقط، ينتقل إلى أمام ليخطو خطوة أخرى على طولها، ثم يستأنف بعد ذلك خطوات العرض. فهو إذن يسير طولا وعرضا.
إن مفهوم العرض رمز إلى استغلال الوقت استغلالا كاملا. لأن الناس -في الغالب- يعيشون اللحظة الواحدة، بما لا يكفي لعمارتها من الأشغال والأعمال. وربما أمضوها بالفراغ، وذلك هو ما يسمى بقتل الوقت. والعرض هو استنفاد كل الحيز الزمني للحياة بالمنجزات الإيجابية، والأعمال الحية التي تملأ رصيد العبد بالحياة الحافلة بالخير. وتلك هي "بركة العمر" المرجوة في الأدعية المأثورة. وإني إذ أذكر هذا المعنى أذكر وصف الله للجنة بقوله سبحانه: ?سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ? (الحديد:21)، ذلك أن الجنة زمن خالد، فأنت تعيش اللحظة الواحدة مرات عديدة، لا تنقضي أبدا. كما أن نعمها الوفيرة لا تستنفد أبدا. فذلك هو العرض ذو المعاني الجميلة.
أما الطول فهو يوحي بالنهاية والزوال، ومن هنا لم تكن للأعمار قيمة من حيث طولها أو قصرها. وإنما البليد من الناس من يتشبث بالطول الدنيوي. قال تعالى:
?قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ? (البقرة:94 - 96).
ذلك أن جشع الكفار وجهلهم بحقيقة الحياة، يجعلهم ينظرون للدنيا من خلال بُعْدٍ واحد، هو البعد الطولي. وهو بعد خداع، لأن الألف سنة فيه كاليوم لا فرق، ما دام الطول ينتهي إلى حد. والعدد في الوحدات الزمنية الدنيوية -كما رأيت- نسبي، ورب حشرة عاشت بضع لحظات، أو بضعة أيام، أزكى عمرا ممن عمر ألف سنة. ومتى كان الإنسان هو المقياس الحقيقي لوحدات الزمن؟!
العمر الطولي والعرضي
¥