ـ[الأيام]ــــــــ[14 - Jun-2007, مساء 02:14]ـ
عَشِقْتُ بَغدادَ لَمّا عشتُ ماضيها
وهِمْتُ شرخَ شبابي في مغانيها
وصُنْتُ رَيِّقَها لما نَعُمْتُ به
من مسِّ سوءٍ ومن عينٍ تُعاديها
وقُلْتُ شعري على الشُّطْآنِ مُبْتَكِراً
وطاوعَتني على المعنى قوافيها
مادَ النَّخيلُ إذ الورقا تُذَكِّرُني
أَيامَ هارونَ والنّعمى تُوافيها
وغَرَّدَتْ فوقَ أغصانٍ بلابلُها
هَبَّ النّسيمُ ومادتْ في تَثنِّيها
تطاوَلَتْ وَزَهَتْ في ثوْبِ عِزَّتِها
في حضنِ دجلةَ والمنصورُ بانيها
وأنجبَتْ من رجالِ الحكمِ من صَعَدُوا
فوقَ الثُّرَيا وجاسوا في أعاليها
وأمسَكوا الأرْضَ من أطرافِها وغَدَتْ
دارُ الخلافةِ أمْنَ المحتمي فيها
تعدو الجِيادُ وقد شَدَّتْ أعِنَّتَها
أيدي الكُماةِ وفي الهيجاءِ تُرْخيها
سيوفُهمْ مُرهَفاتٌ في أَكُفِّهِمِ
إذا تطاولَتِ الأَعْناقُ تَفْريها
عُنْفُ الفُتُوَّةِ مِن هَبَّاتِ معتصِمٍ
ظَعِينَةٌ في بلادِ الرّومِ يَفْديها
وحَرَّكَ الجيْشَ لَبّى صَوْتَ صارخَةٍ
وأشعَلَ الأرضَ نيراناً بمنْ فيها
ومِلْءُ جَفْنيْكِ نوماً في كَلاءَتِهِ
يا أُخْتَ بغدادَ إنَّ العدْلَ راعِيها
تاريخُ بَغْدادَ في أحْضانِ مكتبتي
بينَ القماطِرِ والجُدْرانُ تحويها
وأنبتَتْ ساسةً دَوَّتْ على مَلأ
أَصواتُهُمْ من فِجاجِ الأرْضِ تأْتِيها
فيها رِجالٌ من الأفْذاذِ قدْ بَذَلوا
جُهْداً جَهيداً على أيامِ ماضيها
في البَحْثِ والعِلمِ والتاريخِ كم كَتَبُوا
وفي التَّراجِمِ شَدَّ القَوْسَ باريها
ودَوَّنُوا لُغَةَ الفُصْحى مُشافَهَةً
بينَ المضارِبِ سيْراً في بَواديها
وأَصَّلوا الفِقْهَ إذ أرْسَوْا قواعِدَهُ
وحَقَّقُوا السُّنَّةَ السَّمْحاءَ تَنْزِيها
يا ويْحَ نَفْسي وعِشْقي لا يُبارِحُها
بينَ الجوانِحِ واللوْعاتُ تذكيها
وفاضَتِ العَيْنُ رَقْراقاً مَدامِعُها
أَكادُ مِنْ زَفَراتِ القَلْبِ أُخْفيها
ثمَُّ انْثَنَيْتُ ونفسي لا تُطاوِعُني
بَلَوْتُ من زَفرَتي الحرَّى مآسِيها
أَرْثي الخِلافَةَ أمْ أنْعى مَآثِرَها
ولا مَآثِرَ في الدُّنيا تُضاهيها
أَبعْدَ هذا بُغاثُ البَعثِ تَحْرُسُها
واستَنْسَرتْ وبَغَتْ هَوْناً وتسْفيها
خانتْ قَوادِمُها ما كانَ يَعْضِدُها
وأسْلَمَتْها على البَلْوى خَوافيها
دارَ السَّلامِ سَلاماً لا يُضارِعُهُ
حُمّى الحِمامِ ولا أحزانُ باكيها
والعَيْنُ ساخِنةٌ ينْهَلُّ ساجِمُها
وفاضتِ الرُّوحُ إلاّ عَنْ تراقيها
والنفسُ واجِمةٌ قد ثارَ لاهِبُها
أَمْواهُ دَجْلةَ ما كادتْ لِتُطْفيها
مَنْ لِلْعِراقِ وقدْ عاثَ العُلوجُ به؟
ومَنْ لبغْدادَ يومَ الرَّوْعِ يَحْميها؟
مَنْ لِلخِلافةِ إِذ غابتْ معالِمُها
وأَظْلَمَ الكَوْنُ واشْتَدَّتْ عَواديها؟
مَنْ يرفَعُ الرايةَ السَّوداءَ خافِقَةً
شَريعةَ اللهِ في الأمصارِ يُحْييها؟
سَهِرْتُ لَيْلي لأَرْوِي قِصَّةً كُتِبَتْ
بِدَمْعِ عَذراءَ كادَ الحزنُ يَذويها
كم مِثلَ هاتيكِ يا بغدادُ قدْ قُطِعَتْ
أَوْصالُها فَتَناءَتْ عن أهاليها
لكنَّها ما اسْتَهانَتْ دونَ عِفَّتِها
ولا اسْتَكانَتْ لِضَيمٍ إنْ يُدانِيها
يا أُخْتَ دَجْلةَ لا تَخْشَيْ نوازِلَها
يا بِنْتَ بَغدادَ إنّي لَسْتُ ناسيها
مدَّتْ يدَيْها إلى الأقْصى تخاطِبُهُ
وَفِي جِنينَ تُلاقِي مَنْ يواسِيها
كِلْتاهُما مُسْتَغيثٌ صاحَ واشَرَفي
وأَطلَقَتْ ثمَّ واغَوْثاهُ مِنْ فِيها
فأَيُّ قَلْبٍ وَعَى مِقْدارَ مِحْنَتها؟
وأَيُّ أُذنٍ لِذي عَزمٍ تُلَبِّيها
لَوْلا الخِيانةُ ما كانَتْ قَذائِفُهُمْ
ولا الصَّواريخُ بالنّيرانِ تُصْلِيها
ولا البَوارِجُ، أمْ كانَ الخليجُ لها
ممهّداً ولَمًا الأوغادُ تأْتيها
ولا السويسُ، وهذي مِصرُ خانِعَةٌ
قدِ اسْتُبيحَتْ على هَوْنٍ مَوانيها
نَسَجْتُ مِن مُقْلَتي عصماءَ ذاتَ شذىً
ومِنْ شُغافٍ إلى بغدادَ أُهديها
ما قُلْتُها للتّغَنِّي والفَخارِ بها
لكِنْ لأُفْرِغ عَزمِي في مَطاويها
ورائِدُ القَومِ حَقّاً ليسَ يكْذِبُهُمْ
تِلكَ الحقيقةُ عندَ النُّصحِ يجْليها
فيها نِداءٌ لِمَنْ شُدَّتْ عزائِمُهُمْ
إلى الجِهادِ فمَنْ لبَّى مُناديها
بَغدادُ حاضِرَةُ الدّنيا وشاهِدُها
عبرَ القرونِ لها دانتْ أَعاديها
لَمَّا بَناها بنو العَبَّاسِ كانَ لَهُمْ
فَضْلُ العُمومةِ واسْتَعْلَوا بِهِ تيها
أُرومَةُ المصطفى أَكْرِمْ بِهِ شَرَفاً
ما إنْ تَرى مِنْ أُروماتٍ تُدانيها
قادوا الجحافِلَ حتى دانَ مَشْرِقُها
وغَرَّبوا ومهادُ الأرضِ تَطْويها
كم مِنْ كَميٍّ له في الحرْبِ مَعْلَمَةٌ
ونفْسُهُ في سبيلِ اللهِ يَشْريها
لقَدْ وَقَفْنا على فْينّا نُحاصِرُها
وتِلْكَ باريسُ كُنّا في ضَواحيها
أَيامُنا تِلكَ أَيمُ اللهِ عائدَةٌ
ونَجْمَعُ الأرضَ قاصِيها لِقاصيها
فالحرْبُ مُعْلَنَةٌ والسّاحُ في سَعَةٍ
والخيْلُ زاحِمَةٌ تعلو نواصيها
هذي الملايينُ في شَوقٍ تَرَقَّبُها
لمّا استهانَ بِخَلْقِ اللهِ باغيها
بوشٌ وأوْباشُهُ فاللهُ يَقْصِمُهُمْ
ونَنْقُصُ الأرْضَ بالأَطرافِ نأتيها
لَمْ يَدْرِ أنّ المنايا في انتظارِهِمُ
والمَوْتُ في خُطُواتٍ كان يَمْشيها
جُيوشُهُمْ وقَدِ اغْتَرَّتْ بِقُوَّتِها
غُرورُها سَوفَ يُشْقيها ويُرْديها
فهلْ جَنَيْتُم وُرُوداً مِنْ حَدائِقِها؟
أم هَلْ وَجَدتُم قُبوراً في أراضِيها
لَم يَدرِ أنّ بني الإسلامِ قَدْ لَمَسُوا
عُقْمَ السّياسةِ مِمّن كان يُمليها
وأَدْرَكُوا أنّ حُكْمَ اللهِ يُنْقِذهُمْ
مِنَ الأعادي ومَنْ مِنْهُمْ يُواليها
إنّ الخِلافَةَ يا بَغدادُ عائِدةٌ
لكنَّما القُدْسُ بعدَ اليومِ تُؤْويها
ويَصْدُقُ الوَعدُ والأَقْصى نُخَلِّصُهُ
ويَظْهَرُ الدّينُ والأَبعادُ يَطْويها
فتحي سليم
¥