وعُسُبِ النخل، والحجارةِ؛ فهذه هي الأدواتُ التي كانوا يَكْتُبون عليها، أما الجُلود فنادرةٌ، وأما الوَرَقُ فمعدومٌ.
وكما أنَّ الصِّراعَ بين الشيطان وبني آدم قائمٌ منذ أنْ أُهْبِطَ آدَمُ إلى الأرض، فالصِّراعُ كذلك موجودٌ بين علماء الحديث وأعداء السُّنَّة، وقد تمخَّض هذا الصِّراع عن تلك الجُهُود التي بذلها العلماءُ لحمايةِ جَنَابِ السُّنَّة، وذَبِّ الكذبِ عنها والدَّخيلِ عليها، وتتمثَّلُ في أمور عديدة، من أهمِّها: نَشْأَةُ الإسناد، وعِلْمُ الجرح والتعديل والكلامُ في الرواةِ جَرْحًا وتعديلاً، ومعرفةُ التاريخِ الذي يَسْتبِينُ به صدقُ الرواةِ وكذبُهم، واتصالُ الأسانيدِ وانقطاعُهَا، وعِلْمُ مصطلح الحديث، والمصنَّفاتُ في صحيحِ السُّنَّة وضعيفها، وغيرُ ذلك كثير؛ ومن أشهره: معرفةُ عِلَلِ الحديثِ الذي هو موضوعُ كتابنا هذا.
ومع أنَّ مدارَ معرفةِ الصحيح من السَّقيم من الحديثِ: على الإسناد الذي قالوا عنه: إنه مِنَ الدِّين [9]، والنظرُ في الإسنادِ يكونُ في اتصالِهِ وثِقَةِ رجاله؛ إلا أنَّ المحدِّثين وضعوا نُصْبَ أعينهم أمرًا آخَرَ، وهو أنَّ الثقةَ قد يَهِمُ، وربَّما دَخَلَ في دِينِ الله ما ليس منه بسببِ أوهامِ الثقاتِ الذين يُظَنُّ بهم الظَّنُّ الحسن؛ فَمِنْ هنا نشأ عِلْمُ عِلَلِ الحديث الذي يُعْنَى أولَ ما يُعْنَى بأوهامِ الثقات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية [10]: «والمقصودُ هنا أنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُق - مع عدمِ التشاعرِ أو الاتفاقِ في العادة - يُوجِبُ العلمَ بمضمون المنقول، لكنَّ هذا يُنتفَعُ به كثيرًا في عِلْمِ أحوال الناقلين، وفى مثل هذا يُنتفَعُ برواية المجهول، والسيِّئ الحفظ، وبالحديثِ المُرْسَل، ونحوِ ذلك. ولهذا كان أهلُ العلم يَكْتُبون مثلَ هذه الأحاديث ويقولون: إنه يَصْلُحُ للشواهدِ والاعتبارِ ما لا يَصْلُحُ لغيره؛ قال أحمد: قد أكتُبُ حديثَ الرجلِ لأعتبرَهُ ....
وكما أنهم يَسْتَشهدونَ ويَعْتبرونَ بحديثِ الذي فيه سوءُ حفظ، فإنهم أيضًا يضعِّفون مِنْ حديثِ الثقة الصدوقِ الضابطِ أشياءَ تبيَّن لهم أنه غَلِطَ فيها، بأمورٍ يستدلُّون بها، ويسمُّون هذا: «عِلْمَ عِلَلِ الحديث»، وهو مِنْ أشرفِ علومهم، بحيثُ يكونُ الحديثُ قد رواه ثقةٌ ضابطٌ وغَلِطَ فيه، وغَلَطُهُ فيه عُرِفَ إما بسببٍ ظاهرٍ [أو خفيٍّ] [11]؛ كما عَرَفُوا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوَّج ميمونةَ وهو حلال، وأنه صلَّى في البيت ركعتين، وجعلوا روايةَ ابنِ عباس- لتزوُّجِها حرامًا، ولكونِهِ لم يُصَلِّ - مما وقَعَ فيه الغَلَطُ ... .
والناسُ في هذا الباب طرفانِ: طَرَفٌ مِنْ أهلِ الكلام ونحوهم ممَّن هو بعيدٌ عن معرفةِ الحديثِ وأهله، لا يُميِّز بين الصحيحِ والضعيف، فيَشُكُّ في صحةِ أحاديثَ، أو في القَطْعِ بها، مع كونها معلومةً مقطوعًا بها عند أهلِ العِلْمِ به. وطَرَفٌ ممن يدَّعي اتباعَ الحديثِ والعَمَلَ به؛ كلَّما وجَدَ لفظًا في حديثٍ قد رواه ثقةٌ، أو رأى حديثًا بإسنادٍ ظاهرُهُ الصحةُ، يريدُ أن يَجْعَلَ ذلك مِنْ جنسِ ما جزَمَ أهلُ العلم بصحَّته، حتى إذا عارَضَ الصحيحَ المعروفَ، أخَذَ يتكلَّفُ له التأويلاتِ الباردةَ، أو يجعلُهُ دليلاً له في مسائلِ العلم، مع أنَّ أهلَ العلم بالحديثِ يَعْرِفون أنَّ مثلَ هذا غَلَطٌ».اهـ.
وقال ابن القيِّم [12]- في كلامه على حديث: «قَضى باليَمِينِ مع الشَّاهد»، والرَّدِّ على من أعلَّه -: «وهذه العللُ وأمثالها تَعَنُّتٌ لا تُتْرَكُ لها الأحاديثُ الثابتةُ، ولو تُرِكَتِ السننُ بمثلها لَوُجِدَ السبيلُ إلى تَرْكِ عامَّةِ الأحاديثِ الصحيحةِ الثابتة بمثلِ هذه الخَيَالات. وهذه الطريقُ في مقابلها طريقُ الأصوليين وأكثرِ الفقهاء: أنهم لا يَلْتَفتون إلى علَّةٍ للحديثِ إذا سَلِمَتْ طريقٌ من الطرق منها، فإذا وَصَله ثقةٌ أو رَفَعه لا يبالون بخلافِ مَنْ خالفه ولو كَثُروا. والصوابُ في ذلك: طريقةُ أئمة هذا الشأن، العالمين به وبِعِلَلِهِ؛ وهو النَّظَرُ والتَّمَهُّر في العلل، والنظر في الواقفين والرافعين، والمُرْسِلين والواصلين: أنهم أَكْثَرُ، وأوثقُ، وأَخَصُّ بالشيخ، وأعرَفُ بحديثه،،، إلى غيرِ ذلك من الأمور التي يَجْزِمون معها بالعِلَّةِ المؤثِّرة في موضعٍ، وبانتفائها في موضعٍ آخَرَ؛ لا
¥