الجراجمة، فرأيت شيخاً كبيراً هِمّاً، قد سقط حاجباه على عينيه؛ من أهل دمشق، على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه فقال: يا بن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عز وجل. ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال:?وَجَـ?هِدُواْ بِأَمْوَ?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ذ?َلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? أي: هذا خير لكم في الدنيا والآخرة؛ لأنكم تغرمون في النفقة قليلاً، فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة " ولهذا قال الله تعالى:?كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى? أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?] البقرة: 216 [ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أسلم " قال: أجدني كارهاً، قال: " أسلم وإن كنت كارهاً. " [1] ( http://majles.alukah.net/#_ftn1)
يقول سيد قطب في "ظلال القرآن": ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله، قبل أن يكون معه منهم أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير. ?يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ ?. .. إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض .. ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع .. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار .. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب .. ثقلة اللحم والدم والتراب .. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: ? اثاقلتم? .. وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: ? اثاقلتم إلى الأرض ? .. وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .. إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم؛ وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة؛ وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود:?أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ?. وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -" من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد: ?إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير? .. والخطاب لقوم معينين في موقف معين. ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو ذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء .. ?ويستبدل قوماً غيركم? .. يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة،
¥