وحين تسأل علمَ النفس عن الأمراض النفسية، وعمليات التفكير والحب والكره، والبخل والكرم، والشجاعة والمروءة التي هي الإنسان، فإنه يسندها إلى تراكيب في الجسم المرئي.
ويأبى العقل هذا الكلام.
إذا أن التركيب التشريحي للإنسان واحد، ومع ذلك توجد اختلافات فردية بيِّنة بين شخص وآخر. فلسنا جميعا سواء. في الشجاعة والكرم وحسن الخلق مع أن التركيب التشريحي واحد. أليس كذلك؟!
بالطبع هو كذلك.
وقديما كان فلاسفة اليونان يقولون بأن تركيبة الإنسان ثنائية. . . كانوا يعتقدون أن في داخل جسد الإنسان شيء خفي؛ مرةً يسمونه النفس، و مرةً يسمونه العقل، ومرةً يسمونه الذات، وغير ذلك، ويعتقدون أن هذا الكائن الخفي هو السبب في وجود الوعي والإدراك، وهو السبب في حياة البدن وغيابه يعني الموت.
وحين نزل القرآن الكريم من الله رب العالمين على رسوله الأمين، تكلم القرآن عن النفس وخاطبها خطابا باعتبار أنها كيان مستقل، وذكر أن منها أنواعا (باعتبار أحوالها المختلفة في الشخص الواحد أو في شخص وشخص). . مطمئنة. . وأمارة ... ولوَّامة ... ، وتكلم عن شيء آخر هو الروح، واختلاف الأسماء يدل ولا شك على اختلاف الماهيات.
وفقهاء المسلمين، تكلموا عن أن تركيبة ثنائية للإنسان، روح (وهي النفس عندهم) وجسد.
وهم في هذا لا يتبعون المتفلسفة من اليونانيين ومن قاربهم من فلاسفة العرب، وإنما نظروا إلى وضع كلمة (روح) و (نفس) في حديث المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ــ فظنوا وجود الترادف بينهما. ولذا شاع بينهم أن النفس والروح شيء واحد. ودعم هذا القول أن اللغة العربية كانت ولا زالت تعتبر النفس هي الروح، وتفسر كل منهما بالآخر.
وذاد من يقينهم بأن النفس هي الروح وجود رؤية قديمة متوارثة عند الناس بأن أفعال الإنسان تنقسم إلى قسمين: مادية و معنوية. ومثلُ ذلك أيضا تصنيف هوية الإنسان إلى نوعين: جسدي و روحاني. و هذا التقسيم الثنائي الذي تغلغل في ذهن الإنسان فرض على الناس قناعة مسلمة بثنائية التكوين البشري.
ولم يَطُلْ وقوف سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ عند الكلام على ماهية النفس، ولم يطل بحثهم حولها، ذلك أنها لم تكن من القضايا الفقهية أو العقدية الأساسية التي عُنوا بها، وكتب من كتب منهم في النفس وهو يعالج بعض الجوانب القليلة من أقوال المتكلمين التي لا تتفق مع الكتاب والسنة، مثل الحياة البرزخية، ونعيم القبر وعذابه.
ويطرح كاتب هذا البحث ــ أحمد كرار أحمد الشنقيطي حفظه الله ــ نظرة أخرى لتركيبة الإنسان، غير النظرة الأحادية (نظرة علم النفس الحديث)، والنظرة الثنائية (نظرة اليونانيين وفقهاء المسلمين على اختلاف ما بينهما من رؤى)، وهي: النظرة الثلاثية.
فالإنسان يتركب من ثلاثة أشياء، بدن. . . وروح. . . ونفس. معتمدا في دراسته على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بما فهمه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. وهاأنذا أعرض ملخصا لما قدمه الباحث ـ أحمد كرار أحمد الشنقيطي ـ من أدله على بحثه القيِّم والله أسال أن يبارك في كلماتي هذه وأن ينفع بها.
والتصور الذي يطرحه الشيخ ـ حفظه الله ـ هو أن الإنسان عبارة عن بدن بمثابة الآلة، والروح هي التي تعطي الحياة لهذا البدن، ولا يعلم كنهها إلا الله، والنفس ــ وهي الفاعل الرئيسي في الإنسان ــ هي التي تسوق البدن إلى حيث تريد، فأمَّارة ترتع في وحل الشهوات والشبهات، أو مطمئنة تسموا بالذكر والصلوات وسائر القربات. أو لوّامة بين هذا وذاك.
وهذه أهم أدلته باختصار:
أولا: اختلاف الاسم يدل على اختلاف المسمى.
فعندنا روح، وعندنا نفس، وعندنا بدن. هؤلاء ثلاثة.
كل منهما غير الآخر. ذلك أن من مسلمات اللغة أن اختلاف الاسم يدل على اختلاف المسمى. ولا بد.
¥