ثم استدَّل ابن قدامة على قوله فقال (وَلَنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى وَيَدَعُ مَسْجِدَهُ , وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ , وَلا يَتْرُكُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَفْضَلَ مَعَ قُرْبِهِ , وَيَتَكَلَّفُ فِعْلَ النَّاقِصِ مَعَ بُعْدِهِ , وَلا يَشْرَعُ لأُمَّتِهِ تَرْكَ الْفَضَائِلِ , وَلأَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالاقْتِدَاءِ بِهِ , وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ النَّاقِصَ , وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْكَامِلَ , وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ بِمَسْجِدِهِ إلا مِنْ عُذْرٍ , وَلأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ النَّاسَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى , فَيُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى , مَعَ سَعَةِ الْمَسْجِدِ وَضِيقِهِ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى مَعَ شَرَفِ مَسْجِدِهِ "
وأقول ـ القائل أحمد شاكر ـ: إن قول ابن قدامة: " ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر "، يشير به إلى حديث أبي هريرة في المستدرك للحاكم (ج1 ص 295): " أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد " وصححه هو والذهبي. [وقال عنه ابن القيم: إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجة. انتهى من الزاد 1/ 441، وضعفه الألباني في رسالة صلاة العيدين في المصلى هي السنة، ورد قول الحاكم والذهبي.]
وقال الإمام الشافعي في كتاب (الأم) (ج 1 ص 207): " بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذلك من كان بعده، وعامة أهل البلدان إلا مكة، فإنه لم يبلغنا أن أحداً من السلف صلى بهم عيداً إلا في مسجدهم. وأحسب ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ لأن المسجد الحرام خير بقاع الدنيا، فلم يحبوا أن يكون لهم صلاة إلا فيه ما أمكنهم ...
فإن عُمِّر بلدٌ فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أنهم يخرجون منه، وإن خرجوا فلا بأس، ولو أنه كان يسعهم فصلى بهم إمام فيه كرهت له ذلك ولا إعادة عليهم. وإذا كان العذر من مطر أو غيره أمرته بأن يصلي في المساجد ولا يخرج إلى الصحراء "
وقال العلامة ابن الحاج في كتاب المدخل (ج2 ص 283): " والسنة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى، لأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:" صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " البخاري 1190 ومسلم 1394. ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة خرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المصلى وتركه، فهذا دليل واضح على تأكد أمر الخروج إلى المصلى لصلاة العيدين، فهي السنة، وصلاتهما في المسجد على مذهب مالك رحمه الله بدعة، إلا أن تكون ثَّم ضرورة داعية إلى ذلك فليس ببدعة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعلها ولا أحد من الخلفاء الراشدين بعده، ولأنه عليه السلام أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيدين، وأمر الحيض وربات الخدور بالخروج إليهما فقالت إحداهن: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب فقال عليه الصلاة والسلام: تعيرها أختها من جلبابها لتشهد الخير ودعوة المسلمين. انظر صحيحي البخاري 324 ومسلم 890.
فلما أن شرع عليه الصلاة والسلام لهن الخروج، شرع الصلاة في البراح، لإظهار شعيرة الإسلام "
فالسنة النبوية التي وردت في الأحاديث الصحيحة دلت على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي العيدين في الصحراء في خارج البلد. وقد استمر العمل على ذلك في الصدر الأول، ولم يكونوا يصلون العيد في المساجد، إلا إذا كانت ضرورة من مطر ونحوه.
¥