فقال (65): (وآخر ما أريد ذكره من معاني نفي العلم بالسماع: هو الخبر المُجرّد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممّن روى عنه، دون إعلالٍ للحديث بذلك، بل مع الحكم بالاتّصال والقبول! وبذلك يظهر لك الفرق بين زَعَم أن نفي العلم بالسماع إعلالٌ بمجرّد عدم العلم وبَيْنَ ما ذكرناه نحن هنا، فالفرق كبيرٌ جدًّا، يبلغُ حدَّ الفرق بين الضّدَّين!! إذ من خلال هذا المعنى يصبح الحكمُ بنفي العلم بالسماع دليلاً على عدم اشتراط العلم بالسماع، وهو دليلٌ قاطعٌ لا محيد عنه على ذلك، بخلاف ذلك المعنى الذي يصبح معه نفي العلم بالسماع دليلاً على اشتراط العلم به!!!
وهناك مثالان قاطعان على هذا المعنى، صادران ممن نُسب إليه اشتراط العلم بالسماع، ألا وهو البخاري!!!
وهذان المثالان يتعلقان برواية أخوين توأمين عن أبيهما، هما سليمان، و عبدالله: ابنا بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه ... (إلى أن قال):
وعلى ذلك يكون ابناه سليمان وعبدالله قد أدركا من أبيهما ثلاثين سنة أو أكثر.
فهل يُتَصَوَّر أنهما لم يسمعا منه؟! وقد كانا معه بالمدينة، إلى أن ذهب إلى البصرة، إلى أن استقرّ أخيرًا بمرو في خراسان، وهما معه في جميع تنقّلاته هذه، كما نصّ على ذلك ابن حبان في (صحيحه). ولو لم ينصّ ابن حبان على ذلك، فابنان لرجلٍ، عاصراه ثلاثين سنة، هل يُتَصَوَّر أنه اختفى عنهما، وما سمعا منه شيئًا حتى مات؟!! كيف و ينضاف إلى ذلك أنّ من المتفق عليه أنهما كانا قد نزلا مع أبيهما مرو إلى أن توفي أبوهما!!! ... (إلى أن قال):
المثال الأول: سليمان بن بريدة، قال عنه البخاري في التاريخ الكبير): لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه). فهل يتجرّأ أحدٌ، بعد أدلّة السماع التي ذكرناها آنفًا من كلام البخاري نفسه، الذي أثبت تلك المعاصرة الطويلة بين سليمان وأبيه أن يزعمَ أن البخاري يردّ حديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع؟!!)
فأجاب الشيخ حاج عيسى بقوله:
(الجواب: الصواب أن تقول: فهل يتجرأ أحد بعد أدلة المعاصرة التي ذكرناها آنفا؟ لا أدلة السماع. ونحن لا نزعم أن البخاري يرد حديث سليمان عن أبيه، لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع، وهذا الوهم ناتج عن عدم تحرير محل النزاع وهضمه جيدا. وما أشبه هذا المثال بقضية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الذي اختلف في سماعه من أبيه فأثبت البخاري الاتصال بثبوت اللقاء (بين الابن وأبيه) فقد أخرج البخاري من طريق عبد الله بن خثيم المكي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه: أخَّر الوليد بن عقبة الصلاة بالكوفة فانكفأ ابن مسعود إلى مجلسه وأنا مع أبي. ثم قال: (قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه وحديث ابن خثيم أولى عندي) التاريخ الصغير (1/ 99) ونقله خالد الدريس في موقف الإمامين (115 - 116).أ. هـ
أقول: هنا أواهم متراكمة يحطم بعضها بعضاً، وقبل أن أذكرها أحب أن أُنَبِّه إلى أمرٍ بدهيٍ له أهمية في تعليقنا على هذا النص وهو: أن البخاري يصحح حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، وتصحيح الحديث فرعُ تصحيحِ السماع، وتصحيح السماع مبنيٌ على دليلٍ، وهذا الدليل إما أن يكون دليلاً قطعياً وهو النص الصريح على وقوعِ السماع لا وقوعِ مجرد اللقاء، وإما أن يكون دليلاً أفاد غلبة الظن بوقوع السماع، كثبوت اللقي أو غيره من القرائن. والسؤال المهم هنا: ما هو دليل البخاري على تصحيح السماع؟
بهذا التنبيه والسؤالِ عليه نبدأ مع أوهام الشيخ حاج عيسى في كلامه السابق:
فأولها: وَصَفَ ما ذكره الشيخ حاتم من علاقة سليمان بن بريدة بأبيه بأنها لا تعدوا أن تكون أدلة معاصرة لا أدلة سماع. وأنا أقول: هذا رأيك، أما البخاري – فضلاً عن الشيخ حاتم – فإنه يراها أدلة سماع، ولهذا صحَّح الحديث مع أنه ليس في شيء من هذه الأدلة ثبوت اللقاء كما تزعم.
فإن قلتَ: حال سليمان مع أبيه لا يُتَصوَّر فيها إلا أنهما التقيا. فنقول لك: إذاً أنت تراها أدلة سماع لا أدلة معاصرة! لأنك صحّحتَ بها الحديث مع عدم ثبوت اللقاء، فعلام تُشنِّع على الشيخ حاتم اعتبارها أدلةَ سماع؟
¥