1 ــ قال محمدُ بنُ إبراهيم بن أبي شيخ الملطي: «جاء يحيى ابن معين إلى عفّان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة فقال: أما سمعتها من أحد؟ قال: نعم حدثني سبعة عشر نفساً عَنْ حماد، قال: والله لا حدثتك، فقال: إنما هو درهم، وأنحدرُ إلى البصرة فأسمع من التبوذكيّ قال: شأنك، فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى التبوذكي، فقال له: أما سمعتها من أحد؟ قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر وأنت الثامن عشر، قال: وما تصنع بهذا؟ قال: إنّ حماد بن سلمة كان يخطئ فأردت أن أميّزَ خطأه من خطأ غيره؛ فإذا رأيتُ أصحابه اجتمعوا على شيء علمتُ أنّ الخطأ من حماد نفسه ... » (2).
2 ــ قال ابن حبان: «ولقد دخلتُ حمص وأكثر همي شأن بقية، فتتبعت حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً؛ ولكنه كان مدلساً .. » (3).
ب - أنَّ من يعتمد على الكتب المتأخرة فقط ـ كما هو الجاري في كثير من الأحيان ـ دون الرجوع إلى المصادر الأصلية المتقدمة من تواريخ وسؤالات وعلل وغيرها قد قصّر وربما فاته الشيء الكثير عَنْ هذا الراوي المعين، والله المستعان.
3 - ذكر الرواة عَن المدار وبيان اختلافهم عنه:
بعد تحديد المدار، وبيان درجته في الرواية ذكر يعقوب بن شيبة الرواة عَن المدار وبين اختلافهم فقال: «فاختلف عنه فيه، فرواه عَنْ عاصم: عبيد الله بن عُمَر، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة؛ فأمَّا عبيدُ الله بن عُمَر فإنه وَصَله وجوّده، فرواه عنه عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة، عَن أبيه، عَن عُمَر (4) عَن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر فيه عُمَر، رواه مرة أخرى عَنْ عُمَر عَن النبي صلى الله عليه وسلم». وقال الدّارقُطنيّ: «حدّث به عنه: عبيد الله بن عُمَر ومحمد بن عجلان وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله، واختلف عنهم ... ».
فالخطوة الثالثة ذكر الرواة عَن المدار وبيان اختلافهم واتفاقهم عَن المدار، قال ابن حجر: «فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف» (5) ويراعى هنا أمور:
1 - التأكد من سلامة الإسناد إلى الراوي عَن المدار، وأنه ثابت عنه؛ فإن لم يكن ثابتاً فلا يعتمد عليه ولا يذكر إلاّ من باب التنبيه عليه.
2 - التأكد من عدم وجود اختلاف على الراوي عَن المدار؛ فإن كان هناك اختلاف يُدْرس للتحقق من الرواية الراجحة.
3 - دراسة حال الراوي وبيان درجته من حيثُ الرواية، ولا يتوسع في ترجمته بل يذكر ما يفي بالغرض.
4 - ترتيب الروايات عَن المدار حسب الاتفاق والاختلاف؛ فيُقال مثلاً: اختلف عَن الزهري على خمسة أوجه:
الأول: رواه فلان، وفلان ـ في الراجح عنه ـ عَن الزهري ..... يذكر الوجه.
الثاني: رواه فلان، وفلان ـ في الراجح عنه ـ عَن الزهري ..... يذكر الوجه. وهكذا.
4ـ الموازنة بين الروايات وبيان الراجح وأسباب الترجيح:
بعد الخطوات السابقة بين يعقوب بن شيبة، والدّارقُطنيّ أنّ سبب الاضطراب في الحديث من عَاصِم بن عُبَيد الله نفسه لا من الرواة عنه، وذكَرَا ما يدلُّ على ذلك فقالَ يعقوبُ: «ولا نرى هذا الاضطراب إلا من عَاصِم، وقد بين ابنُ عيينة ذلك في حديثه قال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة: كان عَاصِم يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر ومرة يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ عُمَر ولا يقول عَن أبيه»، وقال الدّارقُطنيّ: «ورواه سفيانُ بنُ عيينة عَن عَاصِم فجوَّد إسناده وبين أن عاصماً كان يضطرب فيه؛ فمرة ينقص من إسناده رجلاً ومرة يزيد ومرة يقفه على عُمَر ... ».
إذاً الخطوة الرابعة الموازنة بين الروايات وبيان الراجح وأسباب الترجيح؛ وهذه من أهم خطوات الدراسة وبها يتميز الناقد البصير من غيره، ومن خلالها يتبين دقة نظر الباحث، وعمق معرفته بالعلل، ومنها يعرف فضل علم الأئمة المتقدمين وبراعتهم ودقتهم؛ فهناك قرائن وقواعد طبقها الأئمة للموازنة بين الروايات المعلة، قال ابن حجر: «والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن» (6)، وقال ابنُ عبد الهادي عَنْ قبول زيادة الثقة: «فيه خلاف مشهور؛ فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها؛ والصحيح التفصيل وهو أنها تُقبل في موضع؛ دون موضع فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: «من المسلمين» في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط؛ بل كل زيادة لها حكم يخصها؛ ففي موضع يجزم بصحتها .. وفي موضع يغلب على الظن صحتها .. وفي موضع يجزم بخطأ الزيادة .. وفي موضع يغلب على الظن خطؤها .. وفي موضع يتوقف في الزيادة» (1).
وقال العلائيُّ ـ رحمة الله عليه ـ: «وأمَّا أئمةُ الحديثِ فالمتقدمون منهم كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهما كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين، وهذه الطبقة، وكذلك من بعدهم كالبخاريّ، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازيين، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأمثالهم، ثم الدارقطني والخليلي كلُّ هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولاً وردّاً الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحُكْمٍ كُليّ يعم جميعَ الأحاديث، وهذا هو الحق الصواب كما سنبينه إن شاء اللهُ تعالى .. » (2).
حواشي:
(2) نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، ص 902.
(3) كان في النية أنْ أذكر لكل قرينةٍ مثالاً مع دراسته حسب الخطوات السابقة ـ وهي ولله الحمد معدة ـ ولكن رأيتُ أنَّ المقام لا يسمح بذلكَ؛ لأنَّ البحث سيطول جداً على القارئ في مثل هذا الموضع، وسأفرد البحث بكتاب، وأذكر لكل قرينة مثالاً يوضحها ـ إنْ شاء الله تعالى ـ.
(4) النكت (2/ 712).
(5) شرح علل الترمذي (2/ 757 - 758).
(1) شرح علل الترمذي (2/ 638).
(2) توضيح الأفكار (1/ 339 - 340).
¥