أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً، قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأنّ هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه» (4).
وتأمل أيضاً هذه القصة التي ذكرها أبو يعلى الخليليُّ. قال: أخبرنا علي بنُ عُمَر الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد عبد الرحمن بنُ أبي حاتم قال: سمعتُ أبي يقول: دخلتُ قَزوين سنةَ ثلاث عشرة ومائتين مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي قاضيها، فدخلنا عليه فدفع إلينا مَشْرَساً (5) فيه مسند أبي بكر؛ فأولُ حديثٍ رأيتُه فيه: حدثنا شعبةُ عَنْ أبي التَيّاح عَنْ المغيرة بن سُبَيْع عَنْ أبي بكر الصديق قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجالُ من أرضٍ يقال لها: خراسان يتبعه أقوامٌ كأنّ وجهوهم المجانُّ المُطرَقَةُ" (6)، فقلتُ: ليس هذا من حديث شعبة عَنْ أبي التَيّاح، وإنما هو من حديثِ سعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الله بن شَوْذَب عَنْ أبي التَيّاح، فقلتُ لخالي: لا أكتبُ عنه إلاّ أن يرجع عَنْ هذا، فقال خالي: أستحي أن أقول، فخرجتُ ولم أسمعْ منه شيئاً» (7).
وذكرها ابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل (8) باختصار فقال: «سمعتُ أبي يقول: داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمتُ قزوين مع خالي فحمل إليَّ خالي مسنده فنظرتُ في أول مسند أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فإذا حديث كذب عَنْ شعبة، فتركته وجهد بي خالي أن أكتب منه شيئاً، فلم تطاوعني نفسي، ورددتُ الكتب عليه».
هذه القصة التي وقعت لأبي حاتم وعمره ثمانية عشر تبيّن مدى ما وَصَل إليه القوم من سعة حفظ، وسرعة استحضار، ودقة نقد، وقوة في الحق؛ فالحديثُ ورجالهُ وطرقهُ تجري مع أنفاسهم كما يجري الهواء، وعندما يسمعون الخطأ والوهم لا يقاومون الدافع الشرعي المتأصل في نفوسهم في رد وتصحيح هذا الوهم والخطأ مهما كانت منزلة الواهم والمخطئ، فلا محاباة في الذّب والدّفاع عَنْ سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا لقريبٍ ولا لشريفٍ، وهذا في الحقيقة من حفظ الله لهذا الدين.
وقصصُ أئمةِ الحديثِ وأخبارهُم في هذا البابِ كثيرةٌ جداً؛ فعلى طالب العلم أنْ يعرفَ للقومِ منزلتهم، وقدم صدقهم فيتأنّى كثيراً عندما يهمُّ بمخالفتهم أو تعقبهم خاصةً في جوانب الحديث الدقيقة كالعلل.
ـ[خليل بن محمد]ــــــــ[27 - 06 - 02, 08:07 ص]ـ
حواشي:
(1) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص43).
(1) مراد الحميديّ بقوله: (وليس فيه كتاب) يريد كتاباً جامعاً وشاملاً لجميع الوفيات ـ بيّن ذلك ابنُ الصلاح، والذهبيّ ـ وإلاَّ فقد أُلفت كتبٌ كثيرة في معرفة الوفيات.
(2) سير أعلام النبلاء 19: 124 - 521.
(3) شرح علل الترمذي (2/ 467).
(4) أُخذ هذا الموضوع رسائل دكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومن نعمةِ اللهِ عليّ أنْ كنتُ أحد المشاركين في هذا المشروع القيم.
(5) مقدمة كتاب «الإمام علي بن المديني ومنهجه في نقد الرجال»، ص 7.
(6) العلل (1/ 381 رقم1136)، وانظر أيضاً المسألة رقم (1184).
(7) شرح علل الترمذي (2/ 757 - 758)، نقد بعضُ المعاصرين كلامَ ابنِ رجب هذا، ولو تأمل في تعاليل الأئمة للأخبار لوجد ذلك بيناً واضحاً، وإنّما أُوتي من عدم التوسع في قراءة كتب العلل، وعدمِ معرفةِ مناهج الأئمة في ذلك.
1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 711).
(2) النكت (2/ 726).
(*) الكاغد: الورق.
(3) النبهرج: هو الباطل، والرديء من الشيء، لسان العرب (2/ 217).
(4) تقدمة الجرح والتعديل، ص 943 ـ 153.
(5) هو الجلد المدبوغ. القاموس (2/ 696).
(6) أخرجه: الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب ما جاء من أين يخرج الدجال (4/ 441 رقم 2237)، وابن ماجه في سننه كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج (2/ 3531 - 4531رقم 2704)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 494)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 091رقم21) وغيرهم وقال الترمذي: «حسن غريب»، وإسناده قويّ لا ينزل عَنْ درجة الحسن، وقد كتبتُ في تقويته جزءاً.
(7) الإرشاد (2/ 696 ـ 796)، وذكرها القزويني في التدوين في أخبار قزوين (3/ 2)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (71/ 26) وإسنادها صحيح.
(8) (3/ 704 رقم 6681).
ـ[خليل بن محمد]ــــــــ[27 - 06 - 02, 08:15 ص]ـ
¥