إن المعرفة الإجمالية – أو التقريبية - للمهمات من تلك المصطلحات والشهيرات من تلك العبارات، قد يفي بها دراسة بعض كتب المصطلح بنوع من التدبر والتأني؛ ولكن لا شك أن ذلك مما لا يكفي طالب التحقيق ولا يؤهله للإجتهاد في مسائل العلم والتبحر فيه، فقد وقع من الدقة والخفاء والإلباس في مذاهب النقاد واصطلاحاتهم ما وقع فيها ثم إن تلك الاصطلاحات – أو تفاصيل معانيها – لم يتفق على جميعها جميع أهل هذا الفن، بل خالف كثير منهم في كثير منها الجمهور مخالفة قريبة أو بعيدة واستعمل بعضهم بعضها في أكثر من معنى، وأهمل شرح أغلبها سائر المتقدمين، ولم يحسن شرح كثير منها كثير من المتأخرين والمعاصرين، لقد أبان غير واحد من الأئمة المتقدمين والعلماء المحققين والباحثين المعاصرين البارعين عن شدة الحاجة إلى استقراء مصطلحات علماء الحديث وكشف دقائق الفروق بين معانيها عندهم وتخمين المواضع التي يخرجون بها عن المشهور من اصطلاحهم، واتباع أصح المسالك في معرفة معاني مصطلحات القدماء، وتصحيح ما وقع من المتأخرين من سوء فهم لمصطلحات السابقين أو إخلال في شرحها، وذكرت في غير هذا الموضع شيئاً من ذلك؛ فكل ذلك مما زاد في صعوبة معرفتها على سبيل التفصيل والتحقيق، ومما جعل أكثر هذه الكتب المؤلفة في هذه الأبواب غير وافية بهذه المقاصد ولا كافية في هذه المطالب، ولا سيما في حق اهل هذا العصر الذي انحسرت فيه العلوم وسقمت فيه الفهوم وهجرت فيه العربية وبعدت فيه الشقة على من أراد الرجوع إلى جادة سلف هذه الأمة الأمية، والله المستعان.
لذلك كله ينبغي أن يعلم أن شرح اصطلاحات أهل هذا الفن العظيم وتبيين حقائقها عندهم وإظهار فوارقها بينهم وكشف عباراتهم فيها وإشاراتهم بها واستنباط دقائقها وتفاصيلها والتنبيه على كل – أو معظم – ما وقع في ذلك من التفرد والشذوذ والمخالفة: مطلبٌ الوصول اليه ـ لا شك ـ غير يسير ودربٌ السائرون عليه قديماً وحديثاً غير كثير؛ وكيف يسهل أن يكون المرء شارحاً لمقاصد العلماء - على اختلاف أعصارهم وأمصارهم وتباين مناهجهم ومدارجهم - فيما اصطلحوا عليه من الكلمات أو استعملوه من غريب الأساليب وخفي العبارات! ولا سيما إذا كان عن دقيق علمهم منعزلاً وعن رفيع منزلهم نازلاً!
ولكن هذا الموضوع لا بد – لشدة الحاجة إليه – من طرق بابه، ولا مندوحة - لعظم الانتفاع به - عن محاولة كشف حجابه ولا سيما في مثل الزمان الذي كثر فيه الكلام على الأحاديث تصحيحاً وتعليلاً وعلى رجالها تجريحاً وتعديلاً؛ وكثر في ذلك كله الجرأة والتعالم والتقليد، وغيرها من الآفات التي حذر منها العلماء وأحجم دون الخوض في مسائل العلم حذراً منها العقلاء الأتقياء، والله الموفق والمستعان.
27 - بيان كيفية تفسير الاصطلاح المحتمل لأكثر من معنى:
الأصل في كلام الإمام إذا كان محتملاً لأكثر من وجه أن يحمل على الوجه الموافق أو المقارب لمذهب أهل عصره من شيوخه وأقرانه وتلامذته وأقرانهم؛ وذلك بشرط تساوي تلك الاحتمالات في قوتها؛ وإلا فأقواها هو المقدم.
28 - بيان ضرورة تقديم شروح المتقدمين على شروح المتأخرين، في الجملة:
لا بد لمن أراد فهم أو شرح اصطلاحات المحدثين أن ينظر معانيها عند واضعيها وعند أهل الأزمنة القريبة من زمنهم فهم أهل الاصطلاح، وهم الذين أنشأوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه واصطلاحاته، فلم يبقَ لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخْذ معاني مصطلحاته منهم، ليفهم علمهم ويَعِيَ قولهم.
29 - بيان أهم أسباب الخلل في طريقة المتأخرين في فهم المصطلحات وشرحها:
هذه المسألة في غاية الأهمية ولكني لم أستوف جميع قواعدها في هذا الموضع فإن بعضها مذكور تصريحاً أو تضميناً في مواضع أخرى من هذا المبحث.
¥