ولكن ليس من المهم أن يحرص من يريد شرح مصطلحات المحدثين على الجمع بين الدقة اللفظية المتناهية والاختصار الشديد، بل إن ذلك غالباً ما يوقع الكاتب في التنطع والتكلف وإضاعة الوقت والجهد، ويوقع القارئ في صعوبة الفهم بسبب شدة الاختصار؛ فذلك مسلك غير محمود ولا سيما إذا لم تدعُ إليه حاجة ولم يقتضه المقام؛ والاعتناء بذلك واشتراطه إنما أتيا من جهة مدرسة المنطق؛ هم يحرصون على أن يكون التعريف مانعاً جامعاً ويحرصون على أن لا يكون في الكلام شيء من حشو أو تطويل أو تكرار، وأما الأول فحرص محمود، وأما الثاني فإذا كان على حساب البيان المطلوب والتقريب المحتاج إليه فلا حاجة إليه بل هو – في كثير من الأحيان - ضار غير نافع.

إن التزام مراعاة أصول المناطقة والمتأخرين المتأثرين بهم وفروعهم قيد ثقيل يؤدي إلى تحجير الواسع من معاني المصطلحات، أو توسيع الضيق من ذلك، وفي أحسن أحواله يكون سبباً في تطويل وتوعير الطريق إلى معرفة المراد، وذلك بسبب كثرة الاعتراضات والإيرادات والمناقشات والتدقيقات والتعقيدات في مسائل لفظية أو أسلوبية؛ وحجتهم في ذلك أن غايتهم التعريف المختصر المحرَّر الجامع المانع، وينتقدون التعريف المطول بالشرح والمثل. فلو أنهم كتبوا تعريفاً في نصف صفحة، أو أكثر، يقوم بالمقصود، ألا يكون أحسن وأنفع من ذلك السطر الذي تعقبه صفحة أو صفحات من الاعتراضات، التي لا يخرج معها قارئها بطائل؟!. ولقد أحسن الصنعاني إذ قال في (تنقيح الأنظار) (1/ 158): (وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه).

لهذا فغير سديد الالتزام بما ألزمنا به أهل المنطق إلا إذا كان في ذلك خير – لا ضرر فيه – كالاختصار والدقة والترتيب والتفصيل والتقسيم وتمام الوضوح ونحو هذه المقاصد. فإن التدقيق في التعبير في تعريف اصطلاحات المتقدمين وشرحها شرحاً مطابقاً قدر الإمكان لما قصدوه هم بتلك المصطلحات لا اعتراض على ذلك بل هو أمر مستحسن مطلوب، وهو يَقْصِد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، وتسهيل فهمها على الوجه الصحيح بصحة العبارة ودقتها وبلاغتها.

قال الدكتور حاتم العوني في (المنهج المقترح) (ص164 - 165) بعد أن ذكر كلام علماء الاسلام في المنطق وفي صناعة المعرِّفات المنطقية وأثرها على العلوم الاسلامية: «فإنه وإن كانت صناعة المعرفات المنطقية بذاتها ليست جرماً لا يقترب، إلا أن التنطع والتكلف الذي بنيت عليه لا يناسب كثيراً اليسر والسليقة العربية التي أنتجت مصطلحات العلوم الاسلامية، مثل مصطلح الحديث؛ تلك المصطلحات ذات المدلولات الواسعة الفضفاضة، المرتكزة على المعنى اللغوي الأصلي للكلمة، القريبة منه كل القرب، غير المجتثة منه: كما قد يحصل في العلوم المترجمة إلى اللغة العربية من الألسن الأخرى).

20 - بيان خطأ بعض المتأخرين والمعاصرين في حمل معاني اصطلاحات المتقدمين على معاني اصطلاحات المتأخرين مع ما بينهما من المخالفة:

ليس من الصحيح أن نحاكم صنيع القدماء واصطلاحاتهم إلى حدود وتعريفات المتأخرين، إذا خالفت هذه تلك؛ ثم نقول: إن المتقدم تجوز أو لم يراعِ الاصطلاح، أو نحو ذلك.

كان على المتأخرين فهم اصطلاحات أسلافهم والسير وراءهم فيها، ولكن لم يرتض كثير من المتأخرين ذلك؛ أو لم يوفقوا إليه، فصارت لهم في بعض أبواب هذا الفن اصطلاحات تختلف قليلاً أو كثيراً عن اصطلاحات أهل الاصطلاح، أعني المتقدمين من المحدثين، فالذي ينبغي أن يقال هنا لهذه الطائفة من المتأخرين، إنما هو: (لا نشاححكم أيها المتأخرون فيما اصطلحتم عليه ولكن بينوا اصطلاحكم البيان الكامل الوافي وانسبوه لأنفسكم وحْدَكم، لا للقدماء، ولا لعامة المحدثين، وصرحوا بتلك النسبة ليزول الإيهام بإغفالها، وافهموا مصطلحات القدماء واعلموا ما بينها وبين مصطلحاتكم من فرق وتفاوت، واعتبروه في دراساتكم؛ وبينوا ذلك لطالبيه).

هذا آخر القسم الأول من هذا المبحث.

ـ[حسام الدين الكيلاني]ــــــــ[20 - 12 - 05, 03:26 ص]ـ

نشكركم على هذا الجهد الطيب.

ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[20 - 12 - 05, 02:37 م]ـ

وفقك الله، أخي الفاضل، إلى كل خير.

ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[20 - 12 - 05, 04:57 م]ـ

القسم الثاني:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015