مثال ذلك: كلمة (غير صحيح) معناها بمقتضى اعتبار المعنى اللغوي في كلمة (غير) والمعنى اللغوي في كلمة (صحيح) معلوم، وهو السقيم؛ وأيضاً معناها بمقتضى اعتبار المعنى اللغوي في كلمة (غير) والمعنى الاصطلاحي في كلمة (صحيح) معلوم وهو نفي الصحة الاصطلاحية فيصدق حينئذ بكل ما هو دون مرتبة الصحيح من مراتب الحديث فيعم عند الجمهور الحديث الحسن والضعيف والضعيف جداً والموضوع.
ولكن هذين المعنيين المذكورين ليس الأصل في هذه العبارة في كتب الحديث واحداً منهما، وإنما الأصل فيها المعنى الاصطلاحي الصرف، وهو نفي ثبوت الحديث والحكم عليه بما يضاد ذلك من البطلان أو الكذب أو الضعف المنافي لثبوته، فإذا قيل في حديث: هذا حديث غير صحيح فمعناه أنه لا يثبت متنه، ففي هذه العبارة نفي للصحة والحسن عنه؛ ولكن إذا وجدت قرينة صارفة لهذه العبارة عن هذا المعنى إلى المعنى المذكور أولاً فسرناها به وما أقل مثل تلك القرائن؛ ومثال ذلك أن يقول الناقد في معرض رده على من حكم بصحة الحديث: هو غير صحيح وإنما هو حسن فقط.
12 - بيان وجوب التنبه إلى كيفية استعمال المحدث للكلمة الاصطلاحية؛ أو بيان وجوب التنبه إلى احتمال إرادة المعنى اللغوي أحياناً لا الاصطلاحي:
ينبغي التنبه إلى أن بعض العلماء كانوا أحياناً يستعملون الكلمة الاصطلاحية - أعني الكلمة التي لها معنى اصطلاحي بالإضافة إلى معناها اللغوي - يريدون بها معناها اللغوي، لا الاصطلاحي؛ ومن هؤلاء الحافظ الذهبي، قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص93) عقب ذكره ألفاظ التعديل عند الذهبي ضمن تراجم الميزان: (هذا، وقد يذكر الذهبي ألفاظاً عدة في الترجمة الواحدة وبين تلك الألفاظ بون واسع فيقصد بها أحياناً المعنى لا المصطلح الدقيق، وكذلك يفعل في التجريح، وقد اقتصرت على ما قصد به المصطلح).
وهذا خروج عن الأصل، فينبغي مراعاة احتمال وقوعه، ولو كان نادراً؛ أعني أن الأصل في الكلمة الاصطلاحية إذا وردت في كتب المصطلح أن تفسر بالمعنى الاصطلاحي؛ ولكن الأصل قد يستحق أن يُخرج عنه بسبب القرائن المقتضية للخروج؛ وهذا معلوم لا خفاء به.
13 - لا بد في تفسير كلمات الناقد الاصطلاحية من مراعاة أمرين:
الأول: المعنى اللغوي؛ وقد تقدم بعض ما يتعلق بذلك.
والثاني: اصطلاح الجمهور، ولا سيما من كان منهم من شيوخه وشيوخهم وأقرانه وتلامذتهم؛ فيبعد أن يكون الناقد ولا سيما الجهبذ الشهير بعيداً في اصطلاحاته عن المعاني اللغوية والمعاني الشهيرة عند المحدثين، ولا سيما إذا لم ينص هو على ذلك ويبينه.
فمن الخلل في صنيع المتأخرين سرعة الخروج بمصطلح العالم – استناداً إلى أضعف شبهة - عن معناه عند الجمهور إلى معنى آخر؛ وقد يكون هذا المعنى الجديد بعيداً عن اصطلاح الجمهور بل وعن عرف اللغة أيضاً.
فلا يستقيم إعطاء مصطلحات بعض المحدثين معان خاصة إلا بعد استقراء وتتبع كافيين، وأدلة محكمة، لأن ذلك خروج عن أصل عام ثابت متين شهير، فلا يقبل إلا بدليل واضح قوي.
14 - بيان بعض أدوات معرفة معاني المصطلحات، وبعض العلوم التي يحتاجها شارح المصطلحات:
إن معرفة اصطلاحات العلماء على سبيل التفصيل والتحقيق لا تتيسر إلا بعد معرفة مناهجهم وقواعدهم في هذا الفن، ومعرفة المعاني اللغوية للكلمات الاصطلاحية على سبيل التوسع والاستيعاب؛ ومن ظن أنه يمكن معرفة المصطلحات معرفة كافية شافية من غير خوض فيما عداها من مسائل علم المصطلح وأصول الحديث ومناهج العلماء وما يتعلق بذلك من تراجم الأئمة منهم ونحو ذلك فقد ظن عجزاً؛ ولذا فإن معرفة معاني مصطلحات كل إمام من أئمة الحديث على الوجه المذكور: أمرٌ فيه من الصعوبة والغموض ما يعجز – بسببه – عن القيام به عالم وحده أو طالب علم وحده؛ فلا بد لذلك من أن يشارك في هذا الباب كثير من العلماء وطلاب العلم والباحثين؛ بل لا بد من التخصص في البحث أحياناً، كأن يختص الدارس ببعض مصطلحات المحدثين أو بمصطلحات بعض المحدثين؛ ولا بأس من أن يتوارد على العمل الواحد أكثر من باحث، فإذا تكررت دراسة موضوع بعينه من قبل اثنين من الطلبة أو أكثر فعسى أن يكون مجموع ما صنعوه أقرب إلى الشمول والاستيعاب وأن يكون الواقف على دراساتهم أتم معرفة بحقائق المسائل وأقوى إحاطة بدلائلها، وأكثر تمكناً من اعتبار بعض
¥