وما ذكره ابن رجب يمكن التمثيل بحديث شبابة عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر في الدباء والمزفت، الماضي ذكره قريبا، فإن شبابة أحد المكثرين عن شعبة، ولذا دافع عنه ابن المديني من هذه الجهة، غير أن الأئمة تواردوا على استنكار حديثه هذا، وذلك لما انظم إلى التفرد من كون عبدالرحمن بن يعمر ليس له إلا حديث واحد، يرويه أيضا شعبة، وكذا سفيان الثوري عن بكير عن عطاء عنه، وهو حديث (الحج عرفة) (1)، فيبعد أن يكون بهذا الإسناد حديث آخر عند شعبة ويفوت سائر أصحابه على كثرتهم ويحفظه واحد منهم مع أن فيهم من هو مقدم على شبابة، إما في الكثرة أو في الحفظ أو كليهما كمجمد بن جعفر ويحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ وخالد بن الحارث وأبي الوليد الطيالسي وغيرهم (2)
ومن ذلك أيضا ما رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل متى كنت نبيا؟ ... ) الحديث (3)، واستنكره أحمد وقال إنه خطأ من الأوزاعي (4)
والأوزاعي من كبار أصحاب يحيى بن أبي كثير ومن المقدمين فيه، وقد نص عليه أحمد وغيره (5)، ولم يمنع هذا أحمد من استنكار حديثه هذا الذي تفرد به عنه، فالأوزاعي قد حفظ عنه غير خطأ في حديث يحيى، فإن كتابه عن يحيى قد احترق أو ضاع فكان يحدث من حفظه (6)، يضاف إلى ذلك ما في المتن من نكارة.
ولا ينبغي أن يفهم من تحرير ضوابط قبول التفرد أو رده أن ما استنكره النقاد ينظر فيه الباحث وفق هذه الضوابط وقد يوافقهم أو يخالفهم فهذا غير مراد، فالنقاد إذا تواردوا على استنكار حديث فالتسليم لهم واجب، سواء أدركنا سبب استنكارهم أو خفي علينا ذلك، ومثله إذا استنكر الواحد منهم حديثا ولم يخالفه غيره ينبغي التسليم له كذلك.
فمعرفة هذه الضوابط إذن تفيد الباحث من جهة كونه يعرف الحكم بدليله، وهذا ما يفرقه عن العامي، وكذلك قد يحتاج هو إلى تطبيق هذه الضوابط في حالات أخرى مثل ان يكون النقاد قد اختلفوا في الحكم على تفرد بالقبول او الرد، فيضطر الباحث إلى الموازنة بينهم، وكذلك في حال وقوف الباحث على تفرد لم يجد للأئمة فيه حكما، فيجتهد هو في تطبيقها. (7)
والجميع يدرك ان التفرد والغرابة كثر جدا في مؤلفات من تأخر بعد عصر النقد أعني نهاية القرن الثالث، وما بعده مثل مسند البزار والمعجم الكبير للطبراني وسنن الدارقطني ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي، فضلا عن الكتب المخصصة أصلا للأفراد والغرائب مثل المعجم الأوسط والمعجم الصغير للطبراني والأفراد والغلاائب للدارقطني وغرائب مالك له، وكتب التراجم له مثل كتب أبي نعيم الأصبهاني والخطيب البغدادي، وكتب الرجال مثل الضعفاء الكبير للعقيلي والمجروحين لابن حبان والكامل لابن عدي وغير ذلك كثير جدا (8)، فضابط تأخر الزمن وأثره في الرد بالتفرد والحكم على الحديث بالنكارة يستخدمه الباحث كثيرا فيما لم يقف عليه إلا في هذه الكتب.
### المبحث الثالث ###
@@@@ موقف المتأخرين من التفرد@@@@
تعد مسألة التفرد وتأثيرها على حكم الناظر في الإسناد إحدى المسائل الهامة التي خالف فيها المتأخرون ما عليه أئمة النقد، فما زال الاهتمام بالتفرد يخف شيئا فشيئا حتى استحكم جدا في الوقت الحاضر.
وقد كانت هناك جهود من بعض الأئمة المتأخرين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وسد الهوة الواسعة بين المنهجين، كما تقدم في المطلب الذي قبل هذا في كلام الذهبي، وابن رجب، غير أن تأثير هذه الجهود كان محدودا، فالتيار كان جارفا.
وفي الوقت الراهن ظهرت دراسات وبحوث تتعلق بهذه المسألة، تشرح منهج النقاد الأوائل، وتطالب بالعودة إليه لسلامته وإحكامه، وقام أصحابها ـ مشكورين ـ بإجراء مقارنة بين منهجهم ومنهج المتأخرين، وضربوا لذلك أمثلة.
وهذه المسألة كغيرها من المسائل الأمهات في هذا الفن، التي ابتعد فيها المتأخر عن منهج المتقدم تحتاج إلى طرقها باستمرار، وعرض ٌ بأساليب مختلفة للوصول إلى الغرض المنشود، وهو العودة بالنقد إلى أصوله المحكمة عند أهله.
ومخالفة المتأخرين لأئمة النقد في هذه المسألة ذات شقين.
الأول: التقرير النظري
الثاني: التطبيق العملي
الحواشي =========================================
(1) أنظر ما تقدم (بداية الحلقة الثانية)
(2) أنظر أصحاب شعبة: شرح علل الترمذي (2/ 702ـ705)
(3) الترمذي (3609)، المستدرك (2/ 609)، ذكر أخبار أصبهان (2/ 226)، دلائل النبوة (2/ 130)، أخرجوه من طرق عن الوليد بن مسلم به
(4) علل المرّوذي ص 150
(5) تاريخ الدوري عن ابن معين (2/ 653،618)، سؤالات الآجري لأبي داود (2/ 38)، الجرح والتعديل (9/ 61،60)
(6) مسائل أبي داود ص 420،420، سؤالات الآجري لأبي داود (2/ 202)، والمعرفة والتاريخ (2/ 409)، مسند أبي عوانة (1/ 321)
(7) أنظر مثالا لما استنكره إمام متأخر: (سير أعلام النبلاء 8/ 394)
(8) انظر في هذه الكتب، والحديث في كثرة الغريب وا لمنكر: الموضوعات (1/ 99)، مجموع فتاوى ابن تيمية (17/ 126)، شرح علل الترمذي (2/ 624)، والحطة في ذكر الكتب الستة ص 120ـ123، ومقدمة التحقيق لـ (نسخة ا بن معين) لعصام السناني ص 194ـ212، وشرحي لكتاب ابن حجر (نزهة النظر) في موضوع الغريب، وانظر مثالا على حديث تفرد به أصحاب هذه الكتب، وأمكن نقده من وجوه، منها أنه لا يوجد في دواوين السنة الأولى: سنن الدارقطني (1/ 182)، وتهذيب سنن أبي داود لابن القيم (3/ 251)، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/ 326ـ327)
يتبع إن شاء الله
¥