فمن اشتهر عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة، وروى عن رجل مكثرٍ تكرر لقاؤه به وسماعه منه، حديثاً واحداً فإن الأصل في مثل هذه الحالة أن هذه الرواية تُقَويه تقويةً ناقصة غير معتمد عليها، فإنه يحتمل أنه لم يرو عنه ذلك الحديث لثقته عنده، وإنما رواه لصحته عنده وثبوته من طريق أو طرق أخرى، أو لاشتهاره بالضعف، أو لرجائه أن يكون ثقة ولكنه خشي أن لا يكون كذلك فلم يكثر عنه، أو لأنه صدوق في نفسه وإن كان كثير الغلط فيما يرويه، أو لأن الحديث في فضائل الأعمال ونحوها مما جرت عادة كثير من المحدثين بالتساهل فيه، أو لأنه قوي في ذلك الشيخ الذي فوقه في تلك الرواية، لا مطلقاً، أو لأنه بين حاله ثم روى عنه ذلك الحديث الواحد على سبيل التعجب ونحوه، أو رواه في المذاكرة، أو أنه لم يروه أصلاً، وإنما أخطأ عليه بعض من دونه في السند.
والحاصل أن رواية حديث واحد عن رجل مضعَّف أو مجهول الحال أو فيه جهالة، من قبل محدث موصوف بأنه لا يروي إلا عن ثقة لا يكون مؤداها كمؤدى روايته أحاديث كثيرة عنه. والله أعلم.
12 - إذا انفرد واحد من العلماء بتوثيق شيخ لشعبة مثلاً، وكان ذلك العالم قد صرح في مكان آخر بأن شعبة لا يروي إلا عن ثقة، فإن الأصح أن لا يعتد بذلك التوثيق اعتداداً كاملاً لقوة الاحتمال في أن يكون بنى هذا التوثيق على تلك القاعدة، وقد تقدم ما فيها.
13 - إذا قال بعض النقاد في بعض الرواة: (ثقة، روى عنه مالك)، فهذه العبارة تشعر بأن مستند قائلها في توثيق من قالها فيه إنما هو رواية مالك عنه، ويزداد هذا الاحتمال قوة إذا كان لذلك الراوي تلامذة آخرون غير مالك، أو إذا لينه أو تكلم فيه بعض المحدثين، أو إذا كان قائل هذه العبارة قد صرح بأن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة؛ قال السيوطي في (إسعاف المبطأ برجال الموطأ) (ص4): «قال أبو سعيد الأعرابي: كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه، سئل عن غير واحد فقال: ثقة روى عنه مالك».
14 - من أوصى غيره بأن لا يأخذ الحديث إلا عن ثقة، فهل تدل هذه الوصية على أن هذا الموصِي كان ممن لا يروي إلا عن ثقة؟
الأرجح أنه لا يعد من هذا الضرب، ولا سيما إذا علمنا أن الوصية كانت في أواخر عمره أو دلت القرائن على ذلك، أو وجدنا الوصية محتملة أن يكون معناها: لا تقبلوا الحديث إلا عن ثقة، أي لا تعملوا به وتحتجوا به إلا إذا كان صحيحاً من رواية الثقات، وكذلك يحتمل أن يكون معنى (لا تحدث إلا عن ثقة)، أي لا تحدث إلا عن ثقة منك بصحة ما تحدث به.
مثال ذلك: ما رواه حمزة السهمي في (تاريخ جرجان) (ص485) عن الأصمعي عن قيس بن حكيم قال: قلت لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين: ما العقل؟ قال: حسن الرفق وترك العجلة، وأن لا يحقر؟؟ المرء كلما ولج سمعه حتى يصححه، وأن لا يحدث الرجل إلا عن ثقة».
ويدخل في هذا الباب نحو قول من قال: «لا ينبغي أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات».
ويلتحق به نحو قول عبد الله بن المبارك «لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه»؛ فإنه لا يدل على أنه لا يحدث إلا عن ثقة.
15 - من فوائد تصريحهم في الراوي بأنه لا يروي إلا عن ثقة، إذا كان ذلك التصريح مقبولاً ولو في الجملة: أنه إذا كان في طبقة شيوخه شيخان يشتركان في الإسم والنسب وتجيء رواية له عن أحدهما مهملاً، أي من غير بيان دال على تعيينه، وكان أحدهما عدلاً والآخر فاسقاً، أو أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً، كان ظاهر الحال أن المراد هو العدل أو الثقة، دون صاحبه.
16 - قال الذهبي في الموقظة (ص): «فصل: ومن الثقات الذين لم يخرج لهم في الصحيحين خلق: منهم من صحح لهم الترمذي، وابن خزيمة، ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما، ثم لم يضعفهم أحد، واحتج هؤلاء المصنفون بروايتهم، وقد قيل في بعضهم: فلان ثقة، فلان صدوق، فلان لا بأس به، فلان ليس به بأس، فلان محله الصدق، فلان شيخ، فلان مستور، (((فلان روى عنه شعبة أو مالك أو يحيى وأمثال ذلك)))، كفلان حسن الحديث، فلان صالح الحديث، فلان صدوق إن شاء الله، فهذه العبارات كلها جيدة ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكن كثير ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه».
¥