وأيضاً فإن حكم الإمام الترمذي على الأحاديث متنوع، فقد يحكم على حديث بأنه صحيح، وعلى آخر بأنه حسن صحيح، وعلى آخر بأنه حسن، مما يدل على أن هناك فرقاً بين هذه الأحكام، وأنها غير مترادفة.
القول الثامن:
قال الزركشي عقب ذكر القول السابق: (ويجوز أن يريد حقيقتهما () في إسناد واحد باعتبار حالين وزمانين، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرةً في حال كونه مستوراً أو مشهوراً بالصدق والأمانة، ثم ترقَّى هذا الرجل المُسْمِع وارتفع حاله إلى درجة العدالة، فسمعه منه الترمذي أو غيره مرة أخرى فأخبر بالوصفين.
وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على الشيخ الواحد غير مرة، وهو قليل.
وهذا الاحتمال وإن كان بعيداً فهو أشبه ما يقال) ().
قلت: والفرق بين هذا القول والقول الخامس أنه في هذا القول يكون الحديث مسموعاً من راوٍ واحدٍ مرتين في حالين، إحداهما حين كان في درجة الحُسْن، والأخرى حين كان في درجة الصحة.
أما القول الخامس فيكون الحديث فيه مسموعاً من طريق راوٍ قد اختلف الأئمة فيه، فبعضهم يوثقه، فيكون حديثاً صحيحاً عندهم، وبعضهم يجعله أقل من ذلك فيكون حديثه حسناً عندهم، ولا يلزم منه أن يروى الحديث عن هذا الراوي مرتين.
n وهذا القول - كما ذكر الزركشي - فيه بعد لا يخفى، فهل كل ما قال فيه: حسن صحيح - على كثرته - قد روي عن راوٍ واحد مرتين، إحداهما حين كان في درجة الحُسْن، والأخرى حين كان في درجة الصحيح؟!.
كما أنه يرد عليه ما قال فيه: حسن صحيح، وليس في رواته من كان لحديثه حالتان.
كما أنه يرد عليه ما قال فيه: حسن صحيح، ولم يكن أحد رواته قد حدث به أكثر من مرة.
القول التاسع:
أن المراد بأن الحديث ((صحيح)) في إسناده ومتنه، ((حسن)) في الاحتجاج به على ما قصد الاحتجاج به فيه.
وهذا قول محمد بن إبراهيم الوزير الصنعاني. ()
والفرق بين هذا القول والقول الثاني، أن القول الثاني أريد بالحُسْنِ حُسْنُ الألفاظ وجمالها وقوة التراكيب وبلاغتها.
أما هذا القول فأريد بالحُسْنِ فيه حُسْنُ الاحتجاج وقوة الدلالة على المراد.
n وقد ذكر الصنعاني أنه لا يرد على هذا القول ما أورده ابن دقيق العيد على القول الثاني لابن الصلاح.
لكن اعترض عليه بعده أمور:
أولاً: أن الحديث إذا كان صحيح الإسناد والمتن فالاحتجاج به معلوم لا يفتقر إلى ذكر أو إشارة.
ثانياً: أنه لم يأت في الاصطلاح وصف الحديث بالحُسْنِ مراداً به حُسْنُ الاحتجاج، ولا يُحْمَل كلامهم إلا على اصطلاحهم.
ثالثاً: أن الأولى على تقدير إرادة حُسْنِ الاحتجاج أن يقال: صحيح حَسَن؛ لا حَسَن صحيح، لأن حُسْن الاحتجاج فرع عن صحته. ()
n قلت: ويمكن أن يعترض عليه أيضاً بأنه لم يدل دليل على إرادته أحد جزئي الحكم حتى يسوغ تأويل الجزء الآخر، فكما أنه يحتمل أن يريد بقوله: ((حسن صحيح)) صحة الإسناد والمتن وحُسْن الاحتجاج به على ما قصد الاحتجاج به فيه فكذلك يُحْتَمل أن يريد بقوله: ((حسن صحيح)) حسن الإسناد والمتن وصحة الاحتجاج به على ما احتج به فيه، والاحتمال الأخير أقوى من الأول؛ بدليل تقديمه الحكم بالحُسْنِ على الحكم بالصحة، والمقدم أقوى من المؤخر.
القول العاشر:
أن ما قيل فيه: ((حسن صحيح))، إن كان فرداً فإطلاق الوصفين عليه إنما هو لتردد الأئمة في حال ناقله، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أم قصر عنها؟، فيكون حسناً باعتبار وصفه عند قوم؛ صحيحاً باعتبار وصفه عند آخرين، غاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد لأن حقه أن يقول: حسن أو صحيح، وعليه فما قيل فيه: ((حسن صحيح)) دون ما قيل فيه: ((صحيح)) لأن الجزم أقوى من الترد.
وإن لم يكن فرداً فيكون الإطلاق باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، وعليه فما قيل فيه: ((حسن صحيح)) فوق ما قيل فيه: ((صحيح))، لأن كثرة الطرق تقويه.
وبهذا أجاب الحافظ ابن حجر ()، وتبعه عليه السخاوي ()، والسيوطي. ()
n ويمكن أن يعترض على الشق الأول من هذا القول بما سبق الاعتراض به على القول الخامس، حيث يرد عليه ما لا خلاف في تعديل راويه، مع ما يلزم عليه من كون الأئمة كالبخاري والترمذي مقلدين لغيرهما في التصحيح والتحسين.
¥