ووجه الاستدلال .. أن أبا طلحة أقدم على قبول التحريم حيث ثبت به التحريم لما كان حلالاً، وكان يمكنه أن يرجئ ذلك حتى يأتي رسول الله r ويسأله شفاهاً، ثم إنك أكد ذلك القبول بإتلاف الإناء وما فيه وهو مالٌ، وما كان ليقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيده خبره العلم عن رسول الله r ، فقام خبر ذلك الآتي عنده وعند من معه مقام السماع من رسول الله r ، بحيث لم يشكوا ولم يرتابوا في صدقه.
8 - إن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي r العلم، يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم، وأقوالهم أنهم قالوا، ولو قيل لهم: إنها لم تصح عنهم، لأنكروا ذلك غاية الإنكار وتعجبوا من جهل قائله! ومعلومٌ أن تلك المذاهب لم يَرْوِها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم، لم يروها عنهم عدد التواتر، وهذا معلوم يقيناً. فكيف حصل لهم العلم الضروري، والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا، وذهبوا إلى كذا، ولم يحصل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله r ، ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع وتعددت طرقه وتنوعت، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم؟!
إن هذا لهو العجب العجاب، وهذا وإن لم يكن نفسه دليلاً، يلزمهم أحد أمرين: إما أن يقولوا: إن أخبار رسول الله r وفتاواه وأقضيته تفيد العلم، وإما أن يقولوا: إنهم لا علم لهم بصحة شيء نُقِلَ عن أئمتهم، وأن النقول عندهم لا تفيد علماً، وإما أن يكون ذلك مفيداً للعلم بصحته عند أئمتهم دون المنقول عن النبي r ، وهذا من أبين الباطل.
9 - أخرج البخاري (3/ 322، 357)، ومسلم (1078) وأبو داود (1584)، والنسائي (5/ 2 - 3)، والترمذي (625)، وابن ماجة (1783)، وأحمد (1/ 233)، والبيهقي (4/ 101) عن ابن عباس أن رسول الله r بعث معاذاً إلى اليمن فقال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".
والشاهد أن رسول الله r أرسل رجلاً واحداً يبلغ شرائع الإسلام، وقد قامت الحجة على أهل الكتاب بهذا الرجل فلو كان مثل هذا البلاغ لا يفيد علماً، لم تقم الحجة على أي إنسان يبلغه عن الله تبارك وتعالى، أو عن رسوله r فيرده، وهذا واضحٌ لا خفاء فيه.
10 - قوله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم {ووجه الاستدلال أن هذا أمرٌ لكل مؤمن بلغته دعوة الرسول r إلى يوم القيامة، ودعوته نوعان:
1 - مواجهة.
2 - ونوعٌ بواسطة المُبلِّغُ، وهو مأمورٌ بإجابة الدعوتين في الحالتين، وقد عُلم أن حياته في تلك الدعوة والاستجابة لها، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علماً، أو يحييه بما لا يفيد علماً، أو يتوعده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علماً بأنه إن لم يفعل، عاقبه وحال بينه وبين قلبه ـ معاذ الله أن يتفوه بهذا عاقل!
11 - قوله تعالى:} فليحذر الذين يُخالِفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ {، وهذا يهم كل مخالف بلغه أمره r إلى يوم القيامة، ولو كان ما بلغه لم يُفِدهُ علماً، لما كان متعرضاً بمخالفة ما لا يفيد للفتنة وللعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمُخالفِ أمره عذرٌ.
12 - قوله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول {(4/ 59).
ووجه الاستدلال: أنه تعالى أمَرَ أن يُردَّ ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم، ويفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة، إذ كيف يَرِدُّ حكم المتنازع فيه إلى ما لا يفيد علماً البتة، ولا يُدرى أحقٌ هو أم باطل؟! وهذا برهانٌ قاطعٌ
بحمد الله تعالى.
¥