قلتُ: إن العنعنات التي تنقل بها المرويات ليست مثل ما ذكرت من وقائع! وإذا فرضنا جدلاً أنها مثلها من كل وجه، فإن اليقين لا يُستفاد من هذه الوقائع. فإن المدرس قد يُخطئ فيصحح نفسه أو يصحح له غيره! والسفير تراقبه دولته، وقد تراجعه فيما بلغ، وكذلك الأحاديث الصحافية، إن ما يحفها من قرائن النشر والإقرار أو الرد يجعل الثقة بها أقرب، ونحن مع تجري عدالة الشاهد لا نكتفي بشاهد واحد، وربما طلبنا أربعة شهداء حتى نطمئن إلى صدق الخبر، والشاهدان أو الأربعة ينشئون ظناً راجحاً، ولا ينشئون يقيناً ثابتاً، بيد أن حماية المجتمع لا تتم إلا بهذا الأسلوب، أسلوب قبول الظن الراجح، وهو ما قامت عليه الشرائع والقوانين في دنيا الناس ... إن العقائد أساسها اليقين الخالص ... ولا عقيدة لدينا تقوم على خبر واحد ... ". أهـ
فهذا الكلام الذي قرأه علينا صاحبنا، فما هو الجواب عنه؟
* قُلتُ: أما هذا الكلام الذي نقلته، فإني أعرف صاحبه واسم كتابه، وقد طُبع هذا الكتاب قرابة عشرين مرة، والله المستعان.
واعلم أيها السائل أن رد خبر الواحد في باب الاعتقاد بدعةٌ مُحدَثة في الإسلام، لا تُعرف عن واحد من أئمة الهدي من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وجملة كلامه يتلخص في ثلاثة مقاصد:
الأول: أن خبر الواحد ليس بحجة في العقيدة.
الثاني: أنه لا يفيد إلا الظن الراجح.
الثالث: أنه كشهادة الشاهد، فيطلب فيه العدد.
والجواب من وجوه:
الأول: أما خبر الواحد فهو ما لم يتواتر، سواء كان من رواية شخص واحد أو أكثر ... وقد تكلم العلماء السالفون كالشافعي رحمه الله وغيره بما فيه كفاية على حجة خبر الواحد وإفادته للعلم، ولم يفرقوا بين العقائد والأحكام، وكان من أدلتهم على أن الخبر الواحد حجة ما يلي:
1 - ما أخرجه البخاري (1/ 95، 502 ـ 8/ 171، 174 و13/ 232 فتح)، ومسلم (5/ 9، 10 نووي)، وأبو عوانة (2/ 81، 82)،
والنسائي (1/ 242 - 243 و 2/ 60 - 61)، والترمذي (340، 2962)
وابن ماجة (1010)، وأحمد (4/ 283، 288 - 289، 304) وغيرهم من حديث البراء بن عازب t وعلى آله وسلم كان أول ما قدم المدينة صلَّى قِبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه
أن تكون قبلته قِبل البيت، وأنه أول صلاة صلَّى .. صلاة العصر،
وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله r قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبل البيت ... ".
وقد رواه كذلك ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه البخاري (13/ 232 فتح)، ومسلم (5/ 10)، وأبو عوانة (1/ 394)، والنسائي (1/ 244 - 2/ 61)، والترمذي (2/ 170 ـ شاكر)،
والشافعي في "الأم" (1/ 94)، وفي "المسند" (ص 23)، وفي "الرسالة"
(ص 123 - 124، 406)، وابن خزيمة (1/ 225) وغيرهم عن مالك، وهو في "موطئه" (1/ 195/6) عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
* قُلتُ: والشاهد أن المسلمين كانوا على أمر مقطوع به، وهو القبلة
لما أخبرهم الواحد وهم يصلون بمسجد قُباء أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة
قبلوا خبره، وتركوا اليقين المقطوع به لديهم لأجل خبره، ولم يُنكِر عليهم
رسول الله r ، بل شُكِروا على ذلك.
فلولا حصول العلم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به، لخبرٍ لا يفيد العلم.
2 - أن الله تبارك وتعالى قال:} يا أيُّها الذينَ آمنوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا {وفي القراءة الأخرى} فَتَثَبَّتُوا {وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد، وأنه لا يحتاج إلى التثبيت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أيضاً أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله r كذا، وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلومٌ في كلامهم بالضرورة، وفي "صحيح البخاري" قال رسول الله r في عدة مواضع كثيرة من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله، وإنما سمعه من صحابي غيره وهذه شهادة
من القائل، وجزمٌ على رسول الله r مما نسبه إليه من قول أو فعل،
فلو كان خبرُ الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله r وعلى آله وسلم بغير علم.
3 - قوله تعالى:} فَاسئَلوا أهلَ الذِّكرِ إن كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون {فأمر من
¥