وليس أدل على ذلك من انتقادهم لابن الصلاح وغيره ممن تكلم في علوم الحديث قبله، بعدم انضباط تعريفه على قواعد الأصوليين، وعدم تحريرها على صناعة المناطقة!!

فهذا تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المعروف بابن دقيق العيد (ت 702هـ)، فيك كتابه (الاقتراح في بيان الاصطلاح)، ينتقد تعريف ابن الصلاح للحديث الصحيح، فيقول: ((وزاد أصحاب الحديث: أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث، لا تجري على أصول الفقهاء .. (إلى أن قال:) لن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً)) (1).

وغاب عن ابن دقيق العيد هنا، أن الكلام عن مصطلح الحديث عند أهل الحديث!! ثم لا وزن لغير أهل الحديث إذا خالفوا أهله فيه!!!

وانتقد ابن دقيق العيد أيضاً الإمام الخطابي في تعريفه للحديث الحسن، فقال: ((وهذه عبارة ليس فيها كبير تلخيص، ولا هي على صناعة الحدود والتعاريف)) (2).

وبانظر السابق نفسه، بل وبالفظ نفسه أيضاً، انتقد الإمام الذهبي (ت 748هـ) تعريف الخطابي، فقال في (الموقضة): ((وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات، إذ ينطبق ذلك عليه)) (3).

والغريب أن كلاً من ابن دقيق العيد الذهبي ممن نصر القول بدخول الحسن في الصحيح، وأن كل صحيحٍ حسن، وليس كل حسن صحيح (4).

وذلك فيه بعض النقاقض، والذي قادهما إليه التزام صناعة الحدود المنطقية!!

ويستمر هذا النظر، بالانتقاد نفسه، إلى الحافظ ابن حجر. فعندما ذكر الحافظ تعريف الخطابي للحديث الحسن، وما وجه إليه من انتقاد، ذكر جواباً عن ذلك الانتقاد للحافظ العلائي (خليل بن كيكلدي، الموفى سنة 761هـ). فقال الحافظ ابن حجر، مشيراً إلى جواب العلائي: ((وعلى تقدير تسليم هذا الجواب، فهذا القدر غير منضبط، فيصح ما قال القشيري (يعني ابن دقيق العيد): أنه على غير صناعة الحدود والتعريفات)) (5).

فالانتقاد المتوجه على تعريف الخطابي للحديث الحسن، عند الحافظ ابن حجر: أنه على غير صناعة الحدود المنطقية!

ثم يهاجم علامة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير (ت 1182هـ) الحافظ ابن حجر، فيقول في (توضيح الأفكار): ((ويقال للحافظ: وكذلك تعريفك (الحسن) في النخبة وشرحها بقولك: (فإن خف: أي قل الضبط، مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح فحسن لذاته) = غير منضبطًٍ أيضاً، فإن خفة الضبط أمر مجهول)) (6).

ثم أخذ الأمير في بيان العموم والخصوص المذكور بين (الصحيح) و (الحسن)، وتوسع غاية التوسع في شرح (العموم) و (الخصوص) عند الأصوليين (7)، حتى إن الناظر في كلامه ليعجب من هذا المبحث الأصولي البحت، ما الذي جاء به إلى مبحث (الحديث الحسن)؟ ‍‍

ثم ينتقل الأمير إلى علم المنطق الخالص: إلى الكلام عن الحدود والرسول، والفرق بينهما، وعلاقتهما بالمعرفات .. وغير ذلك من علم المنطق الصرف (8)؛ وهذا كله في مبحث (الحديث الحسن) ‍‍‍

وخلال كلام الأمير هذا، جاءت كلمة ابن الوزير الفاصلة، والقول الحق، الذي كنا قد ذكرناه سابقاً، وهو قوله: ((وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه)) (1)

وأكتفي بهذا القدر اليسير في حجمه، العظيم في دلالته، من الكلام عن منهج من جاء بعد ابن الصلاح، لنقف عند تحولٍ جديد وأعمق في هذا العلم.

ونحن في هذه الوقفة، عند هذا التحول في منهج التصنيف في علوم الحديث، لنرى (فكرة تطوير المصطلحات) ماثلةً أمام أعيننا، ونمسك أثر علوم المنطق وأصول الفقه متجسداً في أحد تصانيف هذا العلم.

أعني بهذا كتاب (نزهة النظر (2) في توضيح نخبة الفكر)، كلاهما للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ). و (النخبة) وشرحها هذان، من حين ما صنفا، احتلاً مكان الصدارة في كتب علوم الحديث، (فلا يحصى كم ناظمٍ لها ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارضٍ لها ومنتصر) (3). لذلك كان للمنهج الذي سار عليه الحافظ فيهما أكبر الأثر فيمن جاء بعده، إلى عصري هذا ‍

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015