وهنا ننتهي من الكلام عن مصنفات علوم الحديث في (القرن الرابع)، لندخل في (القرن الخامس الهجري).

وقد سبق في عرضنا التاريخي لمصطلح الحديث، وفي تأريخ تأثر العلوم النقلية بالعلوم العقلية، ما ملخصه: أن هذا القرن هو أول القرون التي ظهر فيها أثر العلوم العقلية فيه على مصنفات علوم السنة. وإن كنا قد نبهنا هناك، أن هذا الأثر لم يكن عميقاًَ كما حصل للقرون اللاحقة لهذا القرن. مع ذلك فإن هذا التأثر أخرج محدثي هذا القرن، من أن يكونوا من (أهل الاصطلاح).

وما أن نلج هذا القرن (الخامس)، حتى نجد أننا انقدنا إلى إمام المحدثين في عصره، ولمن جاء بعد عصره: الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ). الذي قال عنه ابن نقطة الحنبلي (محمد بن عبد الغني البغدادي، المتوفى سنة 463هـ) في كتابيه (التقييد لمعرفة راوة السنن والمسانيد) و (تكملة اٍلإكمال): ((وله مصنفات في علوم الحديث لم يسبق إلى مثلها. ولا شبهة عند كل لبيب، أن أمتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب)) (4).

الخطيب البغدادي الذي

((قل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً)) (5) كما يقول الحافظ ابن حجر، بحر من بحور الحديث، لا يستطيع باحث أن يتناوله بدراسةٍ شاملةٍ عميقةٍ لجميع جوانب حباته وعلومه ومصنفاته. بل كل كتابٍ من كتب هذا الإمام حقيق بدراسة مفردة، توقفنا على منهجه فيه.

لكن أجل كتبه في قوانين الرواية هو (الكفاية في علم الروية).

ودراسة هذا الكتاب من جميع جوانبه غرض مهم جليل، لكن بحثنا في هذا الطرح متجه إلى ناجيةٍ معينة، وباختصار في ذلك أيضاً. لذلك فسوف نتكلم عن (الكفاية) للخطيب، تحت العنوان الذي وضعناه لهذا الفصل.

فهل سار الخطيب على المهج السليم في شرح مصطلح الحديث؟

يجيب عن ذلك الخطيب نفسه، في مقدمة كتابه الكفاية، من حين ذكره لسبب تصنيفه له، حيث يقول: ((وقد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الحديث، والمثابرة على جمعه. من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين، وينظروا نظر السلف الماضين، في حال الراوي من المروي، وتمييز سبيل المرذول والمرضي)) (6).

فمن هذا السبب الذي صنف الخطيب من أجله الكتاب، يتبين لنا منهج الخطيب النظري الواجب عليه اتباعه في مواجهة ذلك السبب. إنه لا بد أن يكون سالكاً مسلك المتقدمين، وناظراً نظر السلف الماضين. لأن هذا المنهج هو الذي سيبلغ من انقطعت بهم الحبال دون علوم سلف المحدثين، وسيصلهم بإرثهم من المتقدمين.

ثم صرح الخطيب بمنهجه في مقدمة كتابه أيضاً، تصريحاً واضحاً، حين قال: ((وأنا أذكر ـ بمشيئة الله تعالى وتوفيقه ـ في هذا الكتاب: ما بطالب الحديث حاجة إلى معرفته، وبالمتفقه فاقة إلى حفظه ودراسته، من: بيان أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب سلف الرواة والنقلة في ذلك ما يكثر نفعه)) (1).

فهذا واضح من الكلام، صريح لا لبس فيه، من الخطيب نفسه، بأن غاية عمله في كتابه الكفاية هو: شرح مذاهب سلف الرواة والنقلة!

هذا هو منهج الخطيب النظري الذي قرره في أول كتابه، وهو المنهج السليم لفهم مصطلح الحديث. لكن: هل تمسك الخطيب بهذا المنهج في كتابه؟

إن الخطيب البغدادي وهو من أهل القرن الخامس، وإن كان من أواحد عصره في علوم الحديث، إلا أنه لا يستطيع أن ينجو ـ تماماً ـ من أثر العلوم العقلية على علوم الحديث الذي توسع نطاقه في عصره، فهو ابن عصره!

وقد كنا ذكرنا في عرضنا اللتاريخي لعوامل التأثير من العلوم العقلية على العلوم النقلية، أن علم (أصول الفقه) كان له نافذتان للتأثير على علوم الحديث. نافذة مباشرة: بما درسته أصول الفقه من مباحث علوم السنة، ونافذة غير مباشرة: بما بثته كتب أصول الفقه ذات المنهج الكلامي المعتمد على المنطق اليواناني من أثر هذا المنهج، الذي تبرز ملالمحه في صناعة المعرفات المنطقية.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015