ومع جليل قدر كتاب الرامهرمزي وعظيم نفعه، غلا أننا ونحن نؤرخ لمصطلح الحديث، لن نجد فيه مادةً واسعةً للكلام عنها. غير أن الكتاب في أبوابه الأخرى، معتمد الاعتماد كله على كلام أئمة النقد من أئمة الحديث في القرن الثالث الهجري.

ليبين بذلك منهجه في مسائل علوم الحديث، وهو تقريرها على ما كان عليه (أهل الاصطلاح).

أما الكتاب الثاني: فهو كتاب (معرفة علوم الحديث) لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ).

فجاء كتاب الحاكم وكأنه مختص بما كان أهمله كتاب الرامهرمزي، من الاعتناء بمصطلح الحديث وشرح معناه وضرب الأمثلة له.

فتناول بـ (نوع ... كذا)، ذاكراً مصطلحه المسمى به. فتكلم الحاكم عن: (العالي) و (النازل) و (الموقوف) و (المرسل) و (المنقطع) و (المسلسل) و (المعنعن) و (المعضل) و (المدرج) و (الصحيح) و (السقيم) و (الغريب) ... وغير ذلك من الأنواع، التي بلغت عنده اثنين وخمسين نوعاً.

وقد بين الحاكم سبب تصنيفه للكتاب في مقدمته، حيث أشار إلى خللٍ أصاب بعض طلال الحديث في طلبهم له، متعلقٍ بأسلوب التلقي وصرف الهمم.

قال الحاكم: ((أما بعد فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها، على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف ... )) (2).

أما منهج الحاكم في كتابه، في تقرير قواعد علوم الحديث وشرح مصطلحه؛ فلا تنس ـ حفظك الله ـ أن الحاكم داخل في أئمة الحديث من أهل القرن الرابع، فهو من (أهل الاصطلاح). ومع ذلك فالكتاب كله صريح بأنه ناقل لما عليه أئمة الحديث، من شيوخ الحاكم فمن قبلهم، وخاصة أئمة القرن الثالث الهجري.

وسأضرب لذلك أمثلة:

ففي تقريره لمعنى مصطلح (المسند)، وما يدخل فيه، يستدل على ذلك بقوله: ((وكل ذلك مخرج في المسانيد)) (3).

وفي مصطلح (المرسل) يقول: ((فإن مشايخ الحديث لم يختلفوا في أن الحديث المرسل هو ... )) (1).

وفي حكم الحديث (المعنعن) ينقل إجماع أئمة (أهل النقل) (2).

وفي مصطلح (المعضل) ينقل تعريفه عن علي بن المديني (3).

وفي باب (العدالة) ذكر أنه: ((يستشهد بأقاويل الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين)) (4).

وفي مصطلح (الشاذ) يسند عن الإمام الشافعي شرحه له (5).

وفي باب (التدليس) أسند عن العلماء في بيان حكمه وأمثلته (6).

وكذا في باب (امعلل) (7).

ومثله في حكم الرواية عن المبتدع، ثم قال بعد أن أكثر النقل أذى إليه الاجتهاد في الوقت من مذاهب المتقدمين، ولم يحتمل الاختصار أكثر منه. وفي القلب أن أذكر ـ بمشيئة الله ـ في غير هذا الكتاب، مذاهب المحدثين بعد هذه الطبقة، من شيوخ شيوخي)) (8). تمعن هذا الاختيار، فيمن ذكر مذاهبهم، ومن ينوي ذكر مذاهبهم!

وفي نوعي التصحيف في الأسانيد والمتون نقل كامل (9).

وفي نوع (معرفة أسامي المحديثين) يقول: ((وقد كفانا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (رحمه الله) هذا النوع، فشفى بتصنيفه، وبين ولخص)) (10). ثم شرع بعد ذلك في أمثلةٍ، ضمنها نقولاً عن أئمة القرن الثالث (11).

وفي نوع (الألقاب) نقل مخص، ثم قال: ((فأما الألقاب التي تعرف بها الرواة، فأكثر من أن يمكن ذكرها في هذا الموضع. وأصحاب التواريخ من أئمتنا (رضي الله عنهم) قد ذكروها، فأغنى ذلك عن ذكرها في هذا الموضع)) (12).

وفي باب (الكنى) نقول كثيرة عن أئمة الحديث في القرن الثالث أيضاً (13).

وفي نوع (رواية الأقران) يقول: ((منه الذي سماه مشايخنا (المدبج) (14))).

وفي آخر أنواع علوم الحديث عنده، وهو نوع مختص بطرق التحمل، وبيان حكمها اعتمد اعتماداً كاملاً على نقوله عن أئمة الحديث في قرونه الأولى (15).

وهكذا فالكتاب كله في شرح مصطلح أهل الحديث، على فهم أهل الحديث، على فهم أهل الحديث أنفسهم. لأن الحاكم يعلم أن: ((غير أهل هذا العلم)) و ((غير أهل الصنعة))، و ((غير المتبحر في صنعة الحديث)) و ((غير الفرسان نقاد الحديث)) (1) = لا يفقه هذا العلم كما كان يعبر الحاكم بذلك كثيراً!

وعلى هذا المنهج نفسه ـ في الأغلب ـ صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم) (2). لأن طبيعة المستخرجات تلزم بذلك (3).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015