5) وقولها –رضي الله عنها-: «والله؛ ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته»:
في رواية معمر بن راشد: «حين»، قال الحافظ ابن حجر (8/ 463): «وعلى التقديرين، فليس فيه نفي أنه كلمها بغير الاسترجاع؛ لأن النفي على رواية «حين» مقيد بحال إناخة الراحلة، فلا يمنع ما قبل الإناخة ولا ما بعدها، وعلى رواية «حتى»؛ معناها بجميع حالاته إلى أن أناخ، ولا يمنع ما بعد الإناخة.
وقد فهم كثير من الشراح أنها أرادت بهذه العبارة نفي المكالمة البتة، فقالوا: استعمل معها الصمت؛ اكتفاء بقرائن الحال، مبالغة منه في الأدب، وإعظاماً لها وإجلالاً. انتهى.
وقد وقع في رواية أبي أويس: فاسترجع، وأعظم مكاني -أي: حين رآني وحدي-، وقد كان يعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فسألني عن أمري، فسترت وجهي عنه بجلبابي، وأخبرته بأمري، فقرب بعيره، فوطئ على ذراعه فولاني قفاه وركب.
وفي حديث ابن عمر: فلما رآني ظن أني رجل، فقال: يا نومان! قم؛ فقد سار الناس ... ».
6) قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يُسَبَّ عندها حسان بن ثابت؛ تقول: إنه الذي قال:
فإنَّ أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاءُ
قال الحافظ ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (6/ 33): « ... ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول -قبّحه الله –تعالى- ولعنه- وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
وقيل: بل المراد به: حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في «صحيح البخاري» ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعره، وهو الذي قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اُهْجُهم وجبريل معك».
وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، قال: كنت عند عائشة –رضي الله عنها- فدخل حسان بن ثابت، فأمرت فألقى له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا؟ يعني: يدخل عليك –وفي رواية: قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك، وقد قال الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؟ قالت: وأي عذاب أشد من العمى -وكان قد ذهب بصره- لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب الأليم، ثم قالت: إنه كان ينافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي رواية: أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به، فقال:
حصان رزان ما تُزَنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت: أما أنت فلست كذلك.
وفي رواية: لكنك لست كذلك».
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (8/ 485): «وفي رواية شعبة -في الباب الذي يليه-: «تَدَعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ٌ}، وهذا مشكل؛ لأن ظاهره أن المراد بقوله:
{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ٌ} هو حسان بن ثابت، وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد، وقد وقع في رواية أبي حذيفة عن سفيان الثوري عن أبي نعيم في «المستخرج»: «وهو ممن تولى كبره» فهذه الرواية أخف إشكالاً».
قلت: الحق الذي لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه: أن الذي تولى كبر الإفك، هو: عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول المنافق، وبذلك تظاهرت الروايات في البخاري عن عائشة –رضي الله عنها- وهي صاحبة القصة وأعلم الناس بأحداثها.
وكذلك ثبت في «البخاري» عن الزهري، وهو أحد رواتها ونقلتها.
فإذا تبين ذلك فما كنا بحاجة للكلام في هذا وتثبيته بالأدلة والبراهين بعد أن استفاض أن صاحب هذه المقالة الخبيثة التي تولى كبرها هو رأس النفاق عبد الله بن أُبَيّ، لولا ما ورد أن حسان بن ثابت ومِسطحاً وحمنة ممن تولى كبر ذلك.
وقد أورد الطبري في «تفسيره» (18/ 89) الأحاديث التي يُفهم منها أن حسان ومسطحاً وحمنة كانوا ممن تولّوا كبر الإفك، ثم قال: وأولى القولين بالصواب: قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك عبد الله بن أُبَيّ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن الذي بدأ بذكر الإفك وكان يجمع أهله ويحدثهم عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول.
¥