ألا ترى أن الإمام الترمذي قد عنون لحديث ابن مسعود هذا بقوله: " باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة "،وهو الذي ذكره ابن المبارك معلقاً، وهذا يعني أن الذي ذكره ابن المبارك معلقاً عند التعليل هو مختصر مما رواه الترمذي وحسنه.
وإذا كان المعلق قد فهم من صنيع الترمذي وجود فرق بين الذي أعله ابن المبارك وبين الذي رواه الترمذي وحسنه ليصف أهل الحديث بأنهم قد وقعوا في مغلطة، فإن صنيع الترمذي هذا في تبويب لحديث ابن مسعود واضحاً على أن المعلق هو الذي وقع في مغلطة، وليس أهل الحديث.
وفي الواقع أن ما ذكره المعلق من التأويل ليفرض وجود تفاوت بين الروايتين بالشكل الذي شرحه،وهو أن هذا الحديث الذي يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم قولاً يدل على السلب الكلي المناقض للإيجاب الجزئي الذي يثبته حديث ابن عمر، ثم يزعم أن ابن المبارك إنما أراد بالتعليل حديث " أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة "، دون اللفظ الذي كان يرويه هو عن سفيان، قبل أن يتحقق من مدى ثبوت روايته به، يعد كل ذلك تكلفاً واضحاً لا يحتمله الواقع، وخروجاً عن منهج الأئمة النقاد،وقد سبق أنه لم يرو الحديث أحد بهذا اللفظ، وإنما هو اختصار من ابن المبارك لما سمعه من سفيان من حديث ابن مسعود، ومن المعلوم أنه لا يلزم من وجود تفاوت ما في اللفظ أو المعنى تعدد الحديث، لاحتمال كونه مروياً بالمعنى. وهذه ظاهرة أخرى نراها لدى كثير من المعاصرين في رفض كلام النقاد وتصحيح ما أعلوه من الأحاديث.
ولو فرضنا جدلاً أن ابن المبارك لم يقصد بالتعليل ما كان يرويه عن سفيان من حديث ابن مسعود " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم… "، وإنما قصد فقط حديث " أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " الذي أورده هو معلقاً، فماذا يقول المعلق عن تعليل النقاد: البخاري وأبي داود وأبي حاتم والدارقطني وغيرهم حديث سفيان بلفظ " ألا أصلي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم…" وقد صرحوا بذلك؟
بهذا يتبين بجلاء أن ما ذكره المعلق فيه تكلف واضح ينبذه الواقع العلمي، وانه غير متسق على النهج السليم في تصحيح الأحاديث وتعليلها، وليس كما زعم هو (غفر الله لنا وله) أن أهل الحديث وقعوا في مغلطة حين حملوا قول ابن المبارك على الحديث الذي رواه هو عن سفيان بلفظ: " ألا أصلي بكرم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم …"،وأنهم لم يعطوا النظر حقه، وقد رأينا سابقاً أن الإمام الزيلعي والشيخ ابن دقيق العيد وابن القطان الفاسي والمنذري كلهم فهموا أن حديث سفيان بلفظ " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم… " هو الذي أعله النقاد، وفي طليعتهم ابن المبارك، وذلك لتضمنه كلمة "ثم لم يعد "،وأن هذه الكلمة كانت مدرجة في الحديث خطأ ووهماً من سفيان، وأن الحديث الذي رواه عاصم إنما هو في موضوع التطبيق، وليس كما جعله سفيان في موضوع ترك رفع اليدين، والله أعلم.
وفي قول المعلق ملاحظات أخرى، يحسن بي أن أسجلها هنا على وجه السرعة، فقوله: " فلهذه النكتة أورده الترمذي عقيب حديث ابن عمر، وضعفه، ولم يورده بعد حديث ابن مسعود الذي رواه من فعله " أقول: إن الترمذي لم يباشر بتضعيفه بشيء، ثم روى ذلك الحديث تحت باب " من لم يرفع يديه إلا في أول مرة "،ولذا فلا داعي لتضعيف الحديث مرة أخرى، ومن عادته في السنن أن يروي بعض ما علقه من الأحاديث أو أشار إليه بقوله " وفي الباب عن فلان وفلان "، في باب لاحق أو في الباب نفسه.
وقول المعلق " إن حديث ابن مسعود هذا ثابت عند الترمذي " لعله فهم ذلك من قول الإمام الترمذي، " حديث ابن مسعود حديث حسن "،وفي هذا نظر؛ لأن الإمام الترمذي يقصد بالتحسين إزالة الغرابة عن متن الحديث فقط، بغض النظر عن مدى صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني بذلك أن المتن ليس فيه شذوذ ولا غرابة لكونه معروفاً بوجود شواهد تتمثل إما في رواية أو عمل أو قول لبعض الصحابة والتابعين، وإن لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية.
¥