وأما الحديث الذي ذكره الترمذي متصلاً تحت باب مستقل كما في رقم (5) فيرى المعلق أنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليس فيه ما يناقض حديث ابن عمر،وبالتالي يجوز الجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه في غير تكبيرة الإحرام في بعض صلواته،وقد تركه في أخرى لبيان جواز الحالتين جميعاً.

وهذا كما ترى تجويز عقلي مجرد عن مراعاة الواقع الحديثي،وملابسات الرواية،وأنه غير مبني على أسس علمية سليمة،وكل ما في الأمر اعتبار حديث ابن عمر ليس نصاً صريحاً في أن ذلك الرفع كان في جميع صلواته صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يناقضه لفظ الحديث الذي حسنه الترمذي، وبالتالي يكون الحديثان صحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم،وهذا هو منهج المعلق.

ومن المعلوم أن إمكانية الجمع بين الأحاديث المختلفة لا تعد دائماً مقياساً لمعرفة ثبوتها جميعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم،ولا عن أي مصدر اختلف عليه الرواة في حديثه، بل يكون ثبوتها وعدمه على ضوء ما تدل عليه القرائن والملابسات التي تحيط بها،وهذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار عند التصحيح والتضعيف،وإلا سيؤدي إلى عواقب خطيرة نظراً إلى مكانة السنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ولا أدري من يقصد المعلق بكلمة: " أهل الحديث "؛ نقاد الحديث أو المشتغلين بالحديث من المعاصرين. وكيف يستقيم صنيعه في جعل حديث سفيان حديثين مستقلين، لمجرد وجود تفاوت بينهما في اللفظ والمعنى مع أن مدارهما واحد. وسيأتي ما يثبت أن الحديث الذي أعله ابن المبارك هو الحديث الذي رواه هو ووكيع وغيرهما عن سفيان، وهو الذي بعينه حسنه الترمذي في سننه، وأن ابن المبارك إنما ساقه مختصراً لغرض تعليله، كعادة النقاد، وأنه لا يعني أن ابن مسعود حدث مرة بهذا اللفظ،وأخرى بذلك اللفظ.

وكان المعلق قد زعم في قوله السابق أن الحديث الذي أعله ابن المبارك رواه الطحاوي في شرح الآثار،والدارقطني وغيرهما، ولفظه عند الدارقطني عن عبد الله، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة ".

قلت: إن الطحاوي رواه عن ابن أبي داود عن نعيم بن حماد عن وكيع عن سفيان عن عاصم بن كليب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود" (1)، وبما أن هذا الحديث يحتمل أن يكون قد رواه ابن أبي داود أو شيخه نعيم بن حماد بمعنى حديث سفيان: " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلى، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة "، فلا ينبغي أن يفهم من ذلك أن سفيان قد حدث بهذا مرة،وأخرى بذاك.

وهذا لا صلة له بحديث سفيان، الذي نحن بصدده، لاختلاف مصدرهما، وإذا كان مصدر هذا الحديث هو حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم فإن مصدر ذلك الحديث هو سفيان عن عاصم،وبالتالي يعد حديث محمد بن جابر حديثاً آخر مستقلاً لا يتصل بحديث سفيان لاختلاف المصدر.

ومع ذلك فإن حديث محمد بن جابر خطأ ووهم، فهو غير ثابت أصلاً عن ابن مسعود؛ فقد قال الدارقطني:" تفرد به محمد بن جابر، وكان ضعيفاً، عن حماد عن إبراهيم،وغير حماد يرويه مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب (1). وكذا نقله عنه البيهقي (2).

وقال عبد الله بن أحمد في العلل (3): ذكرت لأبي: حديث محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله في الرفع؟ فقال:ابن جابر أيش حديثه! هذا حديث منكر.أنكره جداً.

وليس من المنهج العلمي أن يعد حديث سفيان حديثين، وأنه قد حدّث بهما جميعاً، بوجود تفاوت بين لفظ ابن أبي داود عن نعيم عن وكيع عن سفيان، وبين ما رواه الثقات عن وكيع عن سفيان، لجواز أن يكون ابن أبي داود أو شيخه نعيم بن حماد قد ساق هذا اللفظ من عنده، لا سيما في حالة مخالفته جماعة من الثقات من أصحاب وكيع،وكذا أصحاب سفيان أيضاً، ولو حدث سفيان بهذين الوجهين لكان أصحابه أولى بروايتهما، أو من هو أكثر ملازمة له، وأما أن يكون ذلك اللفظ معلوماً عند تلميذ تلميذ سفيان أوعند الراوي الذي بعده ن دون أن يعلم به أحد من أصحابه فغير معقول.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015