" أعلم أن قول ابن المبارك هذا أوقع كثيراً من أهل الحديث في مغلطة،وظنوا أن حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي وحسنه هو الذي قال فيه ابن المبارك: " لم يثبت "، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحديث الذي قال فيه ابن المبارك هو الذي ذكره الترمذي تعليقاً: " أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة "،ولفظه عند الطحاوي: " أنه عليه السلام كان يرفع يديه في أول تكبيره، ثم لا يعود "، هذا الحديث هو الذي يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم قولاً يدل على السلب الكلي المناقض للإيجاب الجزئي، الذي يثبته حديث ابن عمر، وهذا الحديث رواه الطحاوي في شرح الآثار، والدارقطني وغيرهما،ولفظه عند الدارقطني عن عبد الله، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة ".
" وهذا إن ثبت يناقض حديث ابن عمر، فلهذه النكتة أورده الترمذي عقيب حديث ابن عمر، وضعفه،ولم يورده بعد حديث ابن مسعود الذي رواه من فعله، وأما الحديث الذي حكى به ابن مسعود فعله صلى الله عليه وسلم بفعله فهو الذي رواه الترمذي وحسنه، وابن حزم في المحلى 4/ 88 وصححه،وأحمد وغيرهم، وهذا لايعارض حديث ابن عمر،وهو ثابت عند الترمذي،وبين الحديثين بون بائن، وقع في الاشتباه من لم يعط النظر حقه، فجر قول ابن المبارك إلى الحديث الفعلي، وهذا أبعد عن سواء الطريق،وهذا واضح، لا سيما في النسخة التي أفرد فيها بعد قول ابن المبارك، باب من لم يرفع يديه إلا في أو ل مرة، كما في نسخة عبد الله بن سالم البصري شيخ الشيخ الشاه ولي الله الدهلوي الموجودة في مكتبة بير جهندا بالسند،وفي نسخة الشيخ عبد الحق، كما في شرح سفر السعادة، ثم أورد بعدها حديث ابن مسعود وحسنه،وذكر من عمله به،وهذا هو الموافق لعادة الترمذي أنه إذا كان في مسألة اختلاف بين الحجازيين والعراقيين يورد مستدلهما في أبواب متعاقبة. والله أعلم (1) انتهى كلام المعلق.
الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين
من خلال الموازنة بين الموقفين المذكورين يتجلى بوضوح أن النقاد المتقدمين أعلوا حديث سفيان عن عاصم عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود، لكونه قد تضمن كلمة " ثم لم يعد " أو كلمة " لم يرفع يديه إلا في أول مرة " التي تعد غريبة في حديث عاصم، إذ لم يذكرها أحد من أصحابه، لا سيما ابن إدريس، وهو صاحب كتاب، بل جعلوا حديثه في موضع أخر،وهو تطبيق اليدين في الركوع، وهكذا رواه أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود، وإبراهيم النخعي عن علقمة، كما سبق بيان ذلك في مستهل المثال.
وتبين بذلك أن كلمة " لم يرفع يديه إلا في أول مرة " تفرد بها سفيان حين أضافها في حديث عاصم،وهي معروفة في أصل حديثه الذي رواه عنه ابن إدريس وغيره من الثقات، ولا في حديث شيخه: عبد الرحمن بن الأسود، إذ اشتهر حديثه بدونها من طريق بن أبي إسحاق عنه، ولا في حديث شيخ شيخه: علقمة، حيث رواه عنه إبراهيم النخعي بدون هذه الزيادة،وأنهم جعلوا جميعاً هذا الحديث في موضوع التطبيق وغيره، فكيف يكون عند سفيان ما ليس عند السابقين؟ ومعنى ذلك أن سفيان اختصر هذا الحديث الذي عند عاصم، وساق لفظه حسب ما فهم، بدل أن يرويه بسياقه المفصل، ولهذا قال الإمام أبو داود: " هذا حديث مختصر من حديث طويل،وليس هو بصحيح على هذا اللفظ ". وهذا طبعاً حسب شعور النقاد،وإن لم يكن لدينا هذا الشعور العلمي فإن الأمر في مثل هذا المجال النقدي ينبغي تسليمه لهم دون نقاش؛ لكونه قائماً على حفظهم وفهمهم ومعرفتهم.
بيد أن بعض المتأخرين صححوا تلك اللفظة بحجة كون راويها ثقة، الأمر الذي يؤكد ما تقدم بيانه في القسم الأول من هذا الكتاب من وجود تباين منهجي بين نقاد الحديث وبين غيرهم في التصحيح والتضعيف،وأنه لا ينبغي الخلط بينهم في ذلك، بل يجب الرجوع في هذا المجال النقدي إلى منهج المحدثين الأوائل.
مناقشة كلام الإمام الزيلعي
وتوضيح ذلك:
أولاً: أن الإمام الزيلعي حين رفض العلة التي تقدّم شرحها أنفاً قد ارتكز على نقطتين، مقلدا للشيخ ابن دقيق العيد،وهما:
1 - أن عاصم بن كليف ثقة، وأن عبد الرحمن بن الأسود سمع من علقمة،وبالتالي يكون السند متصلاً برواية الثقات.
¥