ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن جنود طالوت بعدم الشرب من النهر في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (259)} () وكما امتحن عباده بخلق إبليس وهو أصل الشر، ونهى عباده عن متابعته وحذر منه. ()
برهان ذلك:
1 - قوله تعالى في الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
فالضمير في قوله: {يُعَلِّمَانِ} وقوله: {مِنْهُمَا} عائد على الملكين؛ لأنهما أقرب مذكور، ولأنه ورد بصيغة التثنية فهو مبدل منهما.
وفي قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} دليل واضح على أنهما كانا يعلمان السحر، وإلا فما فائدة تحذيرهما من ذلك؟! ()
وهذا الذي قلنا هو الظاهر المتبادر من السياق، وهو أولى ما حملت عليه الآية. ()
2 - أن المروي –عن الصحابة والتابعين– في قصة هاروت وماروت، حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، ولا يصح فيها حديث مرفوع ()، والأصل أنه لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن والسنة. ()
3 - أن ما نسب إلى الملكين – بأنهما شربا الخمر، وقتلا، نفساً وزنيا– غير جائز في حقهما لما تقرر من عصمة الملائكة - عليهم السلام - من ذلك. ()
فإن قيل: إن تعليم الملكين للسحر كفر، لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} () وهذا فيه قدح بعصمتهم لأنه لا يجوز عليهم تعليم السحر؟
فجوابه:
أنه ليس في تعليم الملكين للسحر كفر، ولا يأثمان بذلك؛ لأنه كان بإذن الله لهما، وهما مطيعان فيه، وإنما الإثم على من تعلمه من الناس، وقد أخبر سبحانه بأن الملكان كانا ينهيان عن تعلمه أشد النهي، حيث قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ().
وقد بينا من قبل، أن لله سبحانه أن يبتلي عباده بما شاء، ومن ذلك ابتلائهم بملكين يعلمانهم السحر، والله تعالى أعلم. ()
الحواشي:
() السائب: مأخوذ من ساب يسوب، إذا مشى مسرعاً. انظر: لسان العرب (6/ 450 - 451).
() أخرجه ابن جرير في تفسيره (1/ 501).
() أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 53)، وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 108)، وابن جرير في تفسيره
(1/ 502)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 306) تحقيق د/ أحمد الزهراني، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 181) جميعهم من طريق موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب به.
() أخرجه ابن جرير في تفسيره – واللفظ له – (1/ 502)، من طريق حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن عمير به.
وأخرجه عبد بن حميد [كما في العجاب 1/ 322] والحاكم في المستدرك وصححه (2/ 291)، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عمير به. وفي سياقه بعض الاختلاف.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (4/ 1223)، من طريق إسماعيل بن خالد، عن عمير، به.
وذكره السيوطي في الدر (1/ 186) وزاد في نسبته لإسحاق بن راهويه، وابن أبي الدنيا في العقوبات.
قال ابن كثير في تفسيره (1/ 143): «رجال إسناده ثقات وهو غريب جداً».
وقال الحافظ ابن حجر في (العجاب 1/ 322): «هذا سند صحيح، وحكمه أن يكون مرفوعاً؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، وما كان علي ? يأخذ عن أهل الكتاب». ا. هـ
وروي عن علي مرفوعاً بلفظ: «لعن الله الزهرة، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت».
¥