فلو روى ما لم يروه غيره من الثقات لم يكن حديثه منكرا ولا شاذا، وقد قال الامام الشافعي في الحديث الشاذ: (وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره) فهذا الحديث عن عائشة ثفرد به القاسم بن محمد عنها فلم يكن شاذا، لانه لم يخالف فيه الناس، وتفرد به أفلح به حميد عنه فلم يكن شاذا كذلك ولا فرق. فكيف والحديث له شواهد تدل على حفظ أفلح وضبطه؟! فمنها حديث جابر الذي تقدم قبله، ومنها أحاديت عن جماعة من الصحابة خرجها الزيلعي في (نصب الراية) وغيره، وقد وجدت شاهدا آخر لم أجد أحدا من المخرجين قد تعرض لذكره ألا وهو الذي يرويه جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: / صفحة 178 / (وقت رسول الله (ص) لاهل المدينة ذا الحليفة، ولاهل اليمن يلملم ولاهل الشام الجحفة، ولاهل الطائف قرن، قال ابن عمر: وحدثني أصحابنا أن رسول الله (ص) وقت لاهل العراق ذات عرق). أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (4/ 94) وقال: (هذا حديث صحيح ثابت من حديث ميمون لم نكتبه الا من حديث جعفر عنه). ومن هذا الوجه أخرجه الطحاوي (1/ 360) إلا أنه قال: (وقال الناس: لاهل المشرق ذات عرق). قال الطحاوي: (فهذا ابن عمر يخبر أن الناس قد قالوا ذلك، ولا يريد ابن عمر من الناس إلا أهل الحجة والعلم بالسنة، ومحال أن يكونوا قالوا ذلك بأرائهم، لان هذا ليس مما يقال من جهة الرأي، ولكنهم قالوا بما أوقفهم عليه رسول الله (ص). قلت: ورواية أبي نعيم صريحة في ذلك، وقد وجدت لها متابعا أيضا لم أر أحدا ذكره، فقال الامام أحمد (2/ 78): ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة سمعت صدقة بن يسار يحدث عن رسول الله (ص): (أنه وقت لاهل المدينة ذا الحليفة، ولاهل الشام الجحفة، ولاهل نجد قرنا، ولاهل العراق ذات عرق، ولاهل اليمن يلملم). قلت: وهذا إسناد صحيح موصول على شرط مسلم. ولكن قد يعارضه ما أخرجه أحمد أيضا (2/ 11) من طريق سفيان وهو ابن عيينة، و (2/ 140) من طريق جرير وهو ابن عبد الحميد عن صدقة بن يسار، وقال الاول: سمع صدقة ابن عمر يقول. . . فذكر الحديث دون التوقيت لاهل العراق وزاد مكانه: (قيل له فالعراق؟ قال: لا عراق يومئذ). قلت: وهذا سند صحيح أيضا وهو ثلاثي. / صفحة 179 / وظاهره أن ابن عمر لا يعلم في الحديث ذكر ميقات أهل العراق، ويعلل عدم ذكره فيه أن العراق لم تكن مفتوحة يومئذ. فكيف يتفق هذا القول منه مع ذكره ذلك في رواية شعبة عنه؟ قلت: مادام أن الروايتين عن ابن عمر ثابتتان عنه، ومن رواية صدقة ابن يسار عنه، فالظاهر أن ابن عمر رضي الله عنه كان في أول الامر لم يبلغه عن رسول الله (ص) الميقات المذكور، ولو من طريق غيره من الصحابة، فلما سئل عنه أجاب بقوله (لا عراق يومئذ). ثم بلغه من طريق بعض الصحابة أن النبي (ص) ذكره فكان هو بعد ذلك يذكره في الحديث ولا يقول فيه (سمعت رسول الله (ص). . .) لانه لم يسمعه بهذا التمام بدليل رواية ميمون بن مهران المتقدمة عنه. كما يظهر أيضا أن صدقة بن يسار سمع الحديث من ابن عمر على الوجهين فكان تارة يرويه على هذا الوجه، وتارة أخرى على الوجه الاخر. هذا ما بدا لي في الجمع بين الروايتين، والله أعلم. وإن مما يحسن التنبيه عليه أن قوله في الحديث: (ولاهل اليمن يلملم). هو أيضا مما لم يسمعه ابن عمر من رسول الله (ص)، وإنما حدثه به بعض الصحابة كما في رواية ابنه سالم عن أبيه مرفوعا بلفظ: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن. قال ابن عمر: وذكر لي - ولم أسمع - أن رسول الله (ص)، قال: ويهل أهل اليمن من يلملم). أخرجه مسلم (4/ 6) وأحمد (2/ 9) وأبو نعيم في (المستخرج) (19/ 132 / 1) وغيرهم. ثم أخرج أحمد (2/ 48 /، 5) والبخاري (1/ 47) ومسلم وأبو نعيم من طريق نافع عنه نحوه. وجملة القول أنه قد ثبت ذكر ميقات العراق في حديث ابن عمر رضي الله / صفحة 180 / عنهما، ولكنه تلقاه عن غيره من الصحابة، وكلهم عدول، رضي الله عنهم، وقد انضم إليه حديث جابر وحديث عائشة فهو صحيح عن رسول الله (ص) يقينا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015